الخميس، 12 يوليو 2018

من المنجم التشيلي إلى الكهف التايلندي.. قصتان


ثمـانيـــة أعوام هي فترة ما بين قصـتيــن إنسانيتين استحوذتا على اهتمام العـالم  والذي عاش أياماً عديدة يتابع تفاصيل وتطورات القصتين.. الأولى قصة احتجاز عمال منجم في تشيلي عام 2010 والثانية قصة الفتيان الذين حجزتهم مياه الأمطار في كهف بتايلند في 2018


   إذ بعد احتجاز دام سبعين يوما تحت عمق بلغ 600 متر تقريباً، استطاعت الحكومة التشيلية بتضافر جهود عدد من مؤسساتها في الوصول إلى عمال منجم "سان خوسيه" الثلاثة والثلاثين، في انجاز محسوب للبشر حين تتكاتف جهودهم، بغض النظر عن اختلافات الدين والعرق والسياسة وغيرها.. 

 لكندعونا نعيد شريط الأحداث بسرعة ونعود إلى أغسطس من صيف عام 2010 في صحراء تشيلي.. عمال يعملون تحت الأرض، ولظروف معينة تنقطع بهم السبل، فيجدون أنفسهم محتجزين على عمق أكثر من نصف كيلو متر، لا يجدون طريقة للخروج كالمعتاد.. فتتضافر الجهود فوراً على سطح الأرض للإنقاذ، لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي كانت متوقعة.. مباحثات واجتماعات كثيرة تجري، مع الأخذ بعين الاعتبار نقطة جوهرية هي الحفاظ على سلامة المحتجزين، فإن أي إجراء للإنقاذ ما لم يكن مدروساً ومحسوباً بدقة يمكن أن يتسبب في حدوث انهيارات ويموت العمال ويدفنون تحت الأرض وتزهق حياة 33 إنساناً، ينتظرهم أضعاف ذاك العدد على السطح، من الأهل والأقارب والزوجات والأبناء والمعارف والأصدقاء، الذين توافدوا على الموقع بعد سماعهم بالخبر..

   بعد فترة من الزمان لم تدم طويلاً في التخطيط، اهتدى التفكير التشيلي الذي ربما تضافرت أفكار دولية أخرى معه، وتوصل إلى فكرة صناعة كبسولة تكفي لشخص واحد مربوطة برافعة يتم ارسالها الى موقع العمال، من بعد أن يتم حفر نفق عمودي إلى الموقع. بعد ذلك بدأ التخطيط لعملية الإنقاذ التي بدأت يوم 12 أكتوبر وبعد مرور 69 يوماً على وجود العمال في ذاك العمق، وفي ظروف مادية ونفسية سيئة.. وبالطبع أثناء التخطيط والتفكير لم يتم نسيان المحتجزين واحتياجاتهم من الطعام والشراب والهواء والدعم النفسي.. وهكذا إلى أن انتهت القصة بإخراج جميع العمال، الذي كان أكبرهم يبلغ من العمر 65 عاماً وأصغرهم في التاسعة عشر من العمر ولم يكن قد انتهى من الثانوية بعد.
  
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل انتهت القصة؟

 عملياً وعلى الأرض، نعم انتهت القصة يومها، ولكن لم ينته حينها عند البعض الآخر المتربص بهكذا فرصٍ حياتيةٍ لا تتكرر كثيراً، أمثال منتجي الأفلام وكتّاب القصص والروايات وبالطبع وسائل الإعلام المختلفة.. ولقد كان من أبرز ما تم القيام به بعد الحادثة، انتاج فلم سينمائي تحت اسم 33 عام 2015، يحكي لحظات إنسانية صعبة لا يعيشها كثيرون، وكيف أن الإنسان حباه الله بإرادة وقدرة على تخطي الصعاب، إن هو استخدمها بوعي وحكمة..


قصة أطفال الكهف..   
القصة الثانية تحدث في تايلند بعد ثمانية أعوام من الأولى، لفريق كرة قدم مكون من 12 صبياً مع مدربهم، حين قاموا بدخول كهف على سبيل الاستكشاف والرياضة. وحدث أن هطلت أمطار وبغزارة خارج الكهف وهم قد تعمقوا في السير داخله إلى مسافة أربعة كيلومترات، ولم ينتبهوا للأمر إلا بعد أن حاصرتهم المياه من كل جانب، وكانوا من حسن حظهم، قريبين من صخرة كبيرة استطاعوا الصعود والبقاء عليها وهم يرون منسوب المياه يرتفع تدريجياً، لا يدري أحدهم ما العمل وما يجب القيام به..

   استمروا على حالهم ذاك أكثر من عشرة أيام حتى تم الوصول إليهم، من بعد أن ذاع خبرهم ووصل للعالم كله، والذي تدافع عند هكذا حوادث لتقديم العون والمساعدة.. وبدأت عملية الإنقاذ في واحدة من أعقد العمليات بحسب الخبراء في هذا الجانب. وتم التفكير في عدة سيناريوهات وحلول لم تكن تنفع إلا واحدة، وهي الأخطر لكنها الوحيدة، وهي تدريب الصبيان على الغوص، على رغم أن أحد الغواصين الخبراء في تلك الفترة قضى نحبه في الكهف، الأمر الذي أثار الكثير من القلق والتوتر. لكن لم يكن باليد حيلة، فهذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ المحتجزين بالكهف، وهذا ما كان فعلاً. حيث خرج كل صبي مع اثنين من الغواصين المهرة في رحلة غوص طويلة وخطرة أيضاً، ونجحت العملية وانتهت في غضون أيام، وخرج الجميع بنجاح يوم أمس الثلاثاء.    
  
ماذا نستفيد من القصتين ؟
  
   إنه لا غنى لأي إنسان يتفاعل مع المواقف الحياتية المتنوعة، أن يتوقف لحظات أمام تلك المواقف والأحداث والقصص، يتذاكرها ويدرسها مع نفسه أو يتفاكر فيها وحولها مع غيره.. 
إن ما أثار الانتباه في قصة العمال التشيليين، الذين شاءت الأقدار أن يعيشوا حياة لا يمكن أن يتخيلها أحد من البشر أن يعيشها وللفترة التي قضوها وهي قرابة سبعين يوماً، لا هواء نقيا ً ولا شمساً ولا قمرا، ولا أهلاً أو أحبابا، بل لا ماء نظيفاً أو طعاماً مشبعا.. وبالمثل في قصة أطفال الكهف، حيث الظلمة والخوف والرطوبة والوساوس المتنوعة، وهي كلها مؤثرة على النفس الإنسانية وقد اجتمعت كلها دفعة واحدة.. لا شك أن الوضع لم يكن سهلاً أبداً على عمال المنجم، فكيف بفتية الكهف، الذين جل خبراتهم الحياتية لم تكن سوى خبرات ما بين البيت والمدرسة والألعاب الإلكترونية..


   لقد أكدت أحداث القصتين على أهمية وقيمة الإنسان، وخاصة في أوقات المحن والشدائد التي تكشف معادن الناس، وتتفجر فيها المشاعر الدافعة للعمل والابتكار، بل ربما يصل الأمر إلى الإبداع..  وتفيد الأحداث كذلك، أهمية تسخير العلم والتقنية في خدمة الإنسان، لتؤكد عمليات الإنقاذ في القصتين، المقولة الشهيرة أن الحاجة أم الاختراع.. فلولا قصة احتجاز العمال تحت ذاك العمق البعيد، ما ظهرت آلة الرفع وجاءت فكرة وكيفية الحفر وصناعة كبسولة الإنقاذ، على الرغم من أن شركات المناجم تعمل من عقود كثيرة في ظروف شبيهة، ولكن لم يهتد التفكير الإنساني إلى تلك المخترعات إلا نتيجة حاجة ماسة ضرورية في وقتها، وهي مخترعات ستكون دون شك، وسائل نافعة لمئات الألوف من العمال، لا يزالون يعملون في الظروف والمجال نفسه حول العالم.


  التفاعل الإنساني بدا واضحاً، والعالم يشاهد عمليات الإنقاذ ويتابعها في القصتين، ويتفاعل مع عمال المنجم أو أطفال الكهف، ومشاعرهم الجياشة الفرحة بقرب العودة للحياة والالتقاء بالأحبة، ليؤكد المشهد أن الأصل في العلاقات بين البشر هو الحب والاحترام والتفاعل مع بعضهم البعض بصور شتى، في الأفراح والأحزان وفي اليسر والعسر.. وأن الحاصل الآن من نزاع وشقاق وحروب هنا وهناك، إنما هو الاستثناء وليس الأصل.
   
  أخيرا تؤكد عمليات الإنقاذ في القصتين، على قدرة الإنسان حماية نفسه وبيئته ومن فيها ويرتبط بها - إن أراد ذلك - وقدرته على قلب الأمور السيئة وإحداث العكس، في تأكيد واضح لحقيقة أن الإنسان يولد وهو مجبول ومفطور على حب الخير والسعي إليه ونشره، وأن ما يحدث أو قد حدث وربما يحدث مستقبلاً من خلافات ومشكلات وتقاتل وصراع، خلاف فطرة البشر، وهو الاستثناء وليس الأصل. 

تلك كانت بعض المعاني التي يمكن التوصل إليها بقليل من التفكر والتدبر في عملية إنقاذ العمال والأطفال، ومن المؤكد أنها تحمل معاني أكثر وأكثر لمن أراد أن يتذكر أو يتفكر.
       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق