مما يروى عن القائد التتري تيمور لنك، أنه نظر إلى وجهه في
المرآة ذات يوم، بعد أن تنعّم وتعوّد على حياة القصور والرفاهية، فانقبضت نفسه
لمنظره القبيح، وأدرك أحد وزراءه المقربين ضمن حاشيته ذلك الأمر في تعبيرات
وتقاسيم وجهه.. فأخذ في ممارسة دوره في المجاملة والإطراء، على عادة الحاشية والبطانة..
فقال له: إن
مثلك أيها الخاقان الأعظم، لا يتحسر على فقدان جمال الوجه، وقد أعطاك الله
تعالى بسطة في الجسم، وبسطة في القوة، وبسطة في الثروة والسلطان.. وإنما يتحسر
ويحزن على جمال الوجوه، النساء وأشباه النساء من الرجال. فانبسطت أسارير تيمور لنك،
وابتسم راضياً عما قاله الوزير - وهو يعلم أنه يجامله أو إن صح التعبير، ينافقه – ثم
التفت إلى نصر الدين خوجة أو جحا، الذي كان حاضراً ساعتها، فرآه ينخرط في البكاء..
فقال له: ما خطبك يا جحا؟ أنا صاحب المصيبة تسليت، وأنت تأبى أن تتسلى! فقال جحا:
معذرة يا مولاي، إن مصيبتي أكبر من مصيبتك أضعافاً مضاعفة! فأنت نظرت إلى وجهك مرة
فانقبضت، فماذا أصنع أنا الذي أنظر إليك بالليل والنهار!
لا يهمنا في هذا الحديث صراحة جحا وظرافته في الوقت نفسه، بقدر ما
يهمنا الالتفات إلى ذاك الوزير المجامل أو المدّاح المنافق، الذي يعيش أمثاله -
وما أكثرهم في عالم اليوم - على نفاق المسؤول ومجاملته، وأحياناً كثيرة - وهو
الأسوأ - يعملون على قلب الحقائق بشكل يتماشى مع أهواء السادة المسؤولين، وبما
يحقق لهم في النهاية مصالحهم المادية، التي هي أساس علاقتهم بالكبار أصحاب القرار..
المنافقون أو المداحون تجدهم في كل مكان وكل زمان. لا يخفون على أحد.
إن صورهم واضحة معروفة، لاسيما اليوم ومن بعد أن أصبح أولئك المداحون، على دراية
تامة بكيفية استغلال وسائل الإعلام المختلفة في تحقيق مكاسبهم الشخصية ومصالحهم..
ظناً منهم أن الناس لا تعي ما يقومون به من دجل وتزييف، وهم في غفلتهم هذه ماضون.
لا شيء أن تمدح الآخرين، إن وجدت ما يستوجب
المدح، لكن دون مبالغات. فقد مُدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يسمع
ويرى، ومدح هو بعض الصحابة الكرام مثل أبي بكر وعمر. فقد وقف يومًا بين أصحابه، كما جاء في البخاري، فقال:
"من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. فمن
كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد،
ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة".
قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من هذه الأبواب من
ضرورة، فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " نعم
وأرجو أن تكون منهم. ومدح كذلك الفاروق عمر في وجهه
وقال له:" ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك
فجاً غير فجك".
بالطبع
حين مدح النبي الكريم بعض أصحابه وفي وجوهم، فإنما كان يعلم أن هذا المدح لن
يفتنهم ولن يدفعهم إلى الاغترار بأنفسهم، وهذا هو الأمر المهم الذي ينبغي إدراكه
حين يأتي أحدنا ويرغب في مدح آخرين بحق.. إنه بالقدر الذي كان يمدح
النبي الكريم بعض أصحابه المستحقين للمدح، فإنه بالقدر نفسه كان حريصاً ألا ينتشر
هذا الأمر، لخطورته على المادح والممدوح. فأما وجه الخطر على المادح، أنه حين يجد
قبولاً من الممدوح لمديحه، وإن كان مبالغاً فيه، فقد يتجرأ بعد قليل ليواصل في هذا
العمل، وخاصة إن كان من ورائه نفعاً مادياً ينتظره، فيدخل من حيث لا يدري أو يدري،
عالم الكذب والنفاق والخداع وغمط الحق. وأما الممدوح فإن وجه الخطورة عنده متمثل
في احتمالية وقوعه في فتنة الشعور بالزهو والفخر والترفع. ومن هنا جاء حديث "
إياكم والتمادح، فإنه الذبح"، وما سمّاه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ذبحاً،
إلا لأنه يميت القلب ويخرج الممدوح عن دينه، إضافة الى أن فيه ذبح للممدوح أيضاً
كما أسلفنا، فيغتر بأحواله ويندفع نحو العُجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمديح لا
سيما إن كان ممن استهوتهم الدنيا..
لذلك جاء في حديث المقداد
رضي الله عنه أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد، فجثا على
ركبتيه، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب".
ولقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، عدم المبالغة في المدح إن كان الأمر يستدعي مدح إنسان لعمل أو صفة فيه، والتوجيه كان دقيقاً.. فقد مدح رجلٌ رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مراراً.. إن كان أحدكم مادحاً لا محالة – أي لابد منه - فليقل أحسبُ كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا ". فكم من المادحين من يأخذ بهذا التوجيه النبوي الدقيق حين يكيل المديح لفلان أو علان، وكم من الممدوحين من يقول في وجه المادحين: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون؟
ولقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، عدم المبالغة في المدح إن كان الأمر يستدعي مدح إنسان لعمل أو صفة فيه، والتوجيه كان دقيقاً.. فقد مدح رجلٌ رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مراراً.. إن كان أحدكم مادحاً لا محالة – أي لابد منه - فليقل أحسبُ كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا ". فكم من المادحين من يأخذ بهذا التوجيه النبوي الدقيق حين يكيل المديح لفلان أو علان، وكم من الممدوحين من يقول في وجه المادحين: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق