الخميس، 20 أبريل 2017

سورة النفوس البشرية

  سورة يوسف، من السور القرآنية التي جاءت تحكي قصة كاملة من البداية للنهاية، على عكس سور قرآنية أخرى كثيرة. فترى سورة تتحدث عن مشهد من قصة نبي، ثم تأتي سورة أخرى لتجد مشهداً جديداً لذاك النبي، وسورة ثالثة ومع مشهد ثالث وهكذا، إلا سورة يوسف، التي يمكن أن نطلق عليها هنا بسورة النفوس البشرية.   

 في هذه السورة ستجد نفوساً بشرية متنوعة، هي نفسها التي تتكرر منذ بدء التناسل البشري، وقصة ابني آدم هابيل وقابيل، وما بعدهما إلى يوم الناس هذا.. تجد النفس الطيبة والنفس الحقودة، وثالثة شريرة، ورابعة ساكنة، وأخرى قلقة، إلى آخر قائمة النفوس البشرية المختلفة.
  
  نجد النبي يعقوب عليه السلام يجسّد لك معاني الأبوة الحقة، ونفسية الأب الحنون المشفق، وما يعني فقدان الولد من بعد استشعار خلافات الأبناء وطغيان شعور الحسد بينهم، ليصل ذروته في لحظات من غيبوبة العاطفة العائلية، إلى حدوث تفكير جماعي شرير للتخلص من أخيهم الضعيف، بعد فقدان الإحســاس بتبعات هذا المخطط الشيـطاني، وأثره البالـغ العمـيق على أبيـهم الشـيخ الكبيـر  ( إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينَا مِنا وَنَحْنُ عُصبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفي ضَلَالٍ مُّبين..)  فهكذا هي النفس الحسودة وما تفعل.
   
  ثم ننتقل بعد ذلك إلى مشهد آخر لنرى نفساً قلقة ضمن نفوس حاقدة حاسدة شريرة، لم يمنعها مع كل ذلك الشر المحيط بها، أن تتحرك بأعماقها ذرات من الخير، جعلتها لا تهنأ بعض الشيء مما يًحاك ضد نفس بريئة مسالمة، فتعيش تلك النفس القلقة بالتالي توتراً كانت ثمرته إيجابية رائعة، تمثلت في فكرة تفتق الذهن عنها في أحلك وأحرج الأوقات، وكانت بمثابة منقذ نفس بريئة من موت محقق.. (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ).. تغيرت الخطة في اللحظات الأخيرة بسبب تلك النفس القلقة، فيقرر الإخوة إلقاء أخيهم الضعيف يوسف، في بئر بعيدة عوضاً عن قتله، لتدخلنا السورة بعد تلك المؤامرة في مشاهد جديدة ومع نفوس أخرى ستظهر على مسرح الأحداث تباعاً..
  

  ظهرت نفوس عدة في شخص نبي الله الكريم يوسف عليه السلام. أولاها، تلك النفس الخائفة المرعوبة.. طفل صغير يُلقى في بئر بعيدة عن الديار، حيث وحشة الأعماق وظلمته، وموت بطيء قادم رغم وجود الماء.. ثم تستمر حالة الخوف معه بعد أن ظن الفرج قد جاءه عبر قافلة سيارة توقفت من أجل الماء، وانتشاله من جوف البئر، ليواجه نفوساً طامعة رأته مالاً وذهبا، فكان مصيره الدخول إلى عالم الرق، وإن كان عالماً مختلفاً. فقد بدأ حياة الرق في بيت عز وسلطان، بيت عزيز مصر أو رئيس وزراء الملك يومها، حيث عاش في بيئة فاخرة مرفهة ولكن بنفسية المغترب، التي تتطلب الكثير من الحذر والأدب والأخلاق، لاسيما أنه بدأ يخدم في القصر، حيث الأجواء المخملية التي تكون غالبة على القصور بشكل عام.
   
  يشب يوسف عليه السلام فيزداد نضارة شبابية أضافت إلى جماله الأصلي، جاذبية تأخذ بالألباب، لاسيما ألباب وقلوب قوارير القصر وزائراتها، وكانت أبرزهن حينذاك، صاحبة النفس المرفهة، التي لا يُرد لها طلباً، زوجة العزيز نفسه.. حيث تسببت، بفعل قوة وفوران الغريزة البشرية عندها في وقت ما ولظروف معينة بالقصر ربما، إلى دفع نبي الله يوسف للانتقال من نفسية المغترب المؤدب الخلوق، ليعيش نفسية المتوتر الحائر، فعاش في تدافع داخلي عجيب بين أمرين لا ثالث لهما..
الأول مع سيدته الجميلة ذات الجاذبية الأنثوية التي لا يُرفض لها طلباً، تأمره بأمر لا يقدر هو أن ينفذه، باعتبار تربيته الدينية وبيت النبوة الذي ينتمي إليه، ورغم قوة وعنفوان الشباب التي كان قد وصل إليها والجو المهيأ في القصر.. وباعتبار أنه ليس من الوفاء قبل أن يكون من الورع والدين، أن يسيء إلى جميل سيده العزيز، الذي أكرم مثواه.. والأمر الثاني أن يتعرض لمشكلات لا يدري كنهها بعد، وهي واقعة لا محالة، سواء نفذ أمر سيدته أم لم ينفذ.
  
  عاش نفسية المحتار المعذَّب حيناً من الدهر قصير، وإن كان طويلاً وقاسياً بالنسبة ليوسف، الذي لا أشك لحظة أنه استحضر وشعر مرارة ما قام به إخوته، الذين هم السبب الأول في محنته التي يواجهها الآن. تلك المحنة التي ازدادت وصارت واقعاً أكثر مرارة، بعد أن انتهى مشهد زوجة العزيز والنسوة وانكشاف أمرها أمام زوجها، حيث دخل السجن، ليعيش حياة أخرى لا شك أنها ستكون قاسية.. حيث عاش سنوات عجاف ما بين نفسية المظلوم المقهور، ونفسية الصابر المحتسب إلى أن جاءت قصة رؤية الملك التي قام بتأويلها يوسف، وحدث ما حدث بعد ذلك من تبرأته واعتراف زوجة العزيز بالمكيدة، ليبدأ حياة جديدة، ليست الحرية أبرز مظاهرها فحسب، بل القوة والسلطان. حيث عاش بنفسية من يملك الصلاحيات والإرادات والقوى، ومن يأمر فيُطاع، بعد أن استخلصه الملك لنفسه وجعله الوزير الأول في المملكة.
  
   ثم مر النبي يوسف بعدها بمشاهد أخرى مع إخوته، وهم بؤساء جاءوا يطلبون معونته، وهم له منكرون لا يعرفونه.. ولا أستبعد هنا أيضاً من النبي يوسف، وهو يستعرض مشاهده المختلفة السابقة مع إخوته، أن تكون مشاعر ونفسيات مختلطة قد جالت بنفسه، ما بين نفسية الغاضب الراغب في الانتقام منهم، ونفسية المشفق عليهم في الوقت ذاته، فهم في نهاية الأمر إخوته، الذين نزغ الشيطان بينهم وأفسد علاقاتهم الأخوية، فكانت الكلمة أخيراً للنفسية التي تربت على الإيمان بالله، واعتبار ما وقع ليس سوى ابتلاءات، وأحسن الأداء فيها بفضل الله ورعايته، فآتاه الله جزاء ذاك الصبر، المُلك والسلطان وعلمه تأويل الأحاديث، ثم توفاه مسلماً وألحقه بالصالحين.. عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق