أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأربعاء، 16 يناير 2019

حين يكون التغافلُ حلاً


  
  الغفلة والتغافل، كلمتان بينهما فرق كبير. فالأولى أمر طبيعي ناتج عن قلة علم أو جهل بالشيء أو الأشياء، فيما التغافل فعل إرادي ناتج عن إحاطة وإلمام وإدراك بما يدور في البيئة المحيطة.. هذا يعني أن التغافل أقرب إلى أن يكون حكمة من الإنسان حين يقوم به في موقف ما، بل ربما يصل التغافل لأن يكون مهارة نحتاج إلى التدرب عليها واكتسابها لأجل علاقات إنسانية راقية. في كثير من الأحيان، نجد أنفسنا مضطرين إلى استخدام مهارة «التغافل» في بعض المواقف الحياتية، لا لشيء سوى رغبة في كبح جماح موقف ما قد يتطور ليصبح ناراً تلظى، أو رغبة في السيطرة على أجواء حدث معين يوشك أن يتطور إلى ما لا يحمد عقباه، فيضطر أحدنا إلى هذا الفعل أو هذا الخُلق أو هذه المهارة.

 خذ مثالاً على ما نتحدث عنه..
إن وجدت نفسك أمام شخص ما في لحظة ما، يتحدث عن خبر معين أو حادثة من حوادث الدهر، لكنك وأنت تنصت إليه، تعـرف حق المعرفة أن الصواب قد جانبه في نقل الخبر أو الحديث عنه.. فهل من الصواب أن تقاطعه فجأة وتصحح ما يتحدث عنه أمام جمع من الحضور، قد يكون صغيراً أو كبيراً، أم تجد أن الحكمة حينها في التريث أو التغافل لبعض الوقت؟

  الواقع الفعلي عند كثيرين في مثل هذه المواقف هو الدخول والمقاطعة لأجل التصحيح، لكن الذي أميل وأدعو إليه، أو أراه الوضع الأمثل أو الأصوب ألا تتدخل وتقاطع المتحدث لتثبت له براعتك في التصحيح أو علمك بالأصح، بل الحكمة تتطلب ها هنا إلى أن تنصت إليه حتى النهاية دون مقاطعة، ثم تبدأ في طرح ما عندك من معلومات وتحاول التصحيح بصورة متدرجة، دون إظهاره بمظهر غير العارف أو أن معلوماته غير دقيقة، كأن تقول له مثلاً بأنك سمعت الخبر ذاته لكنه على نحو كذا وكذا، ثم تضيف في القول عبارة أخيرة مهدئة: لست مع ذلك متأكد أنه صحيح تماماً.. وبما أنني سمعته بشكل وسمعته أنت بشكل آخر، فمن الأفضل أن نتأكد أكثر.

  أنت هنا في هذا الموقف تستخدم مهارة أو خلق التغافل بحكمة، حيث سيدرك صاحبك من فوره أن معلوماته ربما غير دقيقة، وهذا ما سيدفعه إلى مراجعتها وتصحيحها فوراً، بل أكثر من هذا - وهو المهم - سيزداد إعجابه وتقديره لك، لماذا؟ لأنك لم تحرجه أو تجرحه، ولم تحفز هرمون « الأدرينالين» في دمه لكي ينتشر في ثنايا جسده وبالتالي يتعنت ويفور ويثور ويستعد لمقاومتك بكل الصور.

  إن قام شخص في موقف ما بتخطئة آخر بشكل مباشر، دون مقدمات أو اختيار الأنسب والأهدأ من الأساليب والألفاظ، حتى لو كان محقاً في تصحيحه بشكل لا يختلف عليه أحد، وسواء كان على شكل منفرد أو أمام الغير، إلا أنه في كلا الحالتين، هو موقف صعب ومحرج بالنسبة للطرف المجني عليه، إن صح التعبير، والأمر سيعتمد عليه في قبول التصحيح أو تطوير الأمر إلى جدال عقيم حتى يصل للمراء، وفي كلا الحالتين سيخرج الشخصان خاسرين من الموقف، إن تم رفض أسلوب التصحيح.. كما أن الخسارة واقعة كذلك في حال قبول أمر التصحيح، لأنه قد يتقبل منك الأمر ويحاول أن يكون كبير الموقف بقرار القبول ولو ظاهرياً، لكنه سيخرج من الموقف وفي نفسه عليك شيء، وما حدث يمكن أن تقع فيه أنت أيها القارئ وأيتها القارئة كذلك، سواء على شكل مصحح أو من يتم التصحيح له.. فحاول أن تتأمل المشهد.


   إن موقف التصحيح أو الإحراج إن صح التعبير، موقف صعب على الإنسان، أي إنسان، أن يتقبله وخصوصاً إذا خلا من الذوق وأدب الحوار والحديث والاستماع.. ولأنه موقف يسبب الكثير من الإحراج، فتوقع أن يكون رد الفعل من الطرف الآخر بنفس الزخم والقوة، سواء قام بإظهاره فوراً أم كتمه في الصدر إلى وقت قريب والى فرصة سانحة لرد الصاع صاعين أو ربما أكثر! وقد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أن تسعة أعشار حُسن الخلق في التغافل.

  إن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة خباياها وخصائصها، مهمة جداً في نجاح العلاقات مع الآخرين. وإن الجهل بها يؤدي على الأغلب إلى عواقب ونتائج غير سارة، والأمثلة في حياتنا أكثر من أن تُحصى.. فالعلاقات بين البشر مثلما أنها تحتاج إلى قلوب واعية صافية نقية لتنمو وتستمر، فكذلك هي بحاجة إلى عقول يقظة فطنة تدعم توجهات ومشاعر تلك القلوب، كما جاء عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بأن العقل ثلثه فطنة وثلثاه تغافل، ما يعني أن استخدام العقل بمهارة في تعزيز وتقوية العلاقات أمر حيوي لا بد منه. ومثل تلك التعزيزات تحتاج إلى مهارات وفنون في التعامل. وأحسبُ أن التغافل أبرز تلك المهارات، بل هو من أخلاق السادة الكرام، الذي أجده حلاً لكثير من المشكلات بيننا، سواء في البيت بين الزوجين أو بينهما والأبناء، أو خارج البيت كما في بيئة العمل أو المجتمع بشكل أعم وأشمل.. والله بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الخميس، 11 أكتوبر 2018

ربنا أفرغ علينا صبراً..

  
   هكذا ردد من بقي مع الملك طالوت من صفوة جنده، وهم في طريقهم لمواجهة ملك جبار ظالم قوي هو جالوت وجيشه الضخم.. قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين..


 هكذا رددوا تلك الدعوات وقد قل عددهم كثيراً من بعد أن كانوا ثمانين ألفاً، وقد تجمعوا مع طالوت لمواجهة عدوهم الذي أهلك حرثهم ونسلهم وشردهم في الأرض.. يريدون مواجهة هذا العدو واسترداد حقوقهم، بعد أن تحرك الإيمان في قلوبهم وأنه لا سبيل لتحقيق مرادهم سوى التوكل على الله والقتال في سبيله، ومن أجل ذلك ذهبوا إلى نبي لهم في ذاك الزمان، وطلبوا أن يدعو الله ليبعث لهم ملكاً يقاتلون عدوهم تحت رايته.

  النبي الذي لم يذكر اسمه القرآن في القصة، استغرب وتعجب من هذه الحماسة الدينية التي سرت في نفوس قومه، وهو يدري أنهم ناقضوا عهودا ووعودا، وأن التحول من الحق للباطل صار أمراً يسيراً عندهم، بل أصبح عادة يُعرف بنو إسرائيل بها..

  بعد أن رأى حماستهم (قال هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال ألا تقاتلوا) أي هل أنتم على درجة تامة ويقين جازم أنكم إذا فرض الله عليكم القتال، لن يكون هناك تردد وتخوف وتراجع؟ يريد أن يطمئن إلى أنهم جادون في الأمر، باعتبار أن مطالب الأنبياء من الله ليست بالأمر الهزل، فإذا ما رفع النبي يديه يدعو ربه، ونزل الأمر، صار تكليفاً واجباً، وأصبح التراجع عنه معصية تجلب غضب الله وعقابه.. ثم ينتهي مشهد بني إسرائيل مع نبيهم بأول مخالفة، حيث اعترضوا على الملك طالوت، وكيف يكون هو الملك وهم أحق منه؟!

  كانت أول صدمة لطالوت بعد نزول أمر القتال.. فكيف يقاتل عدواً شرساً مثل جالوت بأمثال هؤلاء الجند، وهم بعد لم يجمعوا صفوفهم؟ تساؤل منطقي وواقعي، لكن بعد عدة نقاشات جرت بينهم وبين نبيهم، استقر الأمر وبدأ طالوت يجمع جنوده ويجهز جيشه للمعركة المرتقبة، وهو لم ينس ما جرى منهم واعتراضهم عليه.. الأمر بحاجة لضبط وربط وتمحيص، فالمهمة التي هم بصدد القيام بها ليست سهلة، ولأنها كذلك، فهي تحتاج إلى رجال أصحاب عزائم وبأس وولاء وطاعة، فلا مجال للخلاف والمشاكسة والمعارضة لأجل المعارضة. فكان لابد من اختبارهم، وكانت قصة النهر الذي سيمر الجيش عبره بعد قليل.. (فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر. فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني، إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلاً منهم).

  أراد الملك طالوت إذن أن يختبر من معه من الجنود الذي كان فيهم الكثير من الذين عارضوا نبيهم حين أخبرهم بأمره، وهو يعلم الآن أنه في مهمة صعبة، كما أسلفنا، وأن الكثير ممن معه في جيشه لا يمكن الاعتماد عليهم من بعد حادثة الاعتراض الأولى، فكيف يأمن أن يخوض بهم حرباً لملاقاة قائد شرس جبار، واحتمالية الخيانة وتولي الأدبار كبيرة جداً منهم..

ألهمه الله اختبار المرور عبر أو جنب النهر، في وقت كان قد بلغ العطش بالجيش مبلغاً لا يمكن مقاومة الماء لدى رؤيته. قال بأن الله مختبرهم بعد قليل، وأن هناك نهراً بالطريق، فمن شرب منه فسيعتبره خارج الجيش ولا حاجة له به، إلا من يغترف بيده أو يشرب الماء بقدر كف يده، فلا بأس.. وكانت المفاجأة. انكب الكثير من الجيش على الماء يشربون شرب الهيم، فخالفوا بذلك الفعل تعليمات قائدهم، وبالتالي لم تنجح الغالبية في الاختبار، حيث قال بعض المفسرين بأن عدد من شرب من الجيش بلغ قرابة ستة وسبعين ألفاً من مجموع ثمانين ألفاً هم كل جيش طالوت. 
لم تبق معه سوى فئة مخلصة صادقة، التزمت بتعليمات القائد، فتيقن حينها بأنه بهذه الفئة القليلة المخلصة سيتمكن بإذن الله من تحقيق الإنجاز المطلوب بهم، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.. ولقد كان من بين الفئة القليلة تلك، نبي الله فيما بعد، داود عليه السلام، الذي قاتل تحت راية طالوت، فكان له شرف قتل عدوهما جالوت.

  الشاهد من الحديث أن الإخلاص في العمل وصحة أساليب التنفيذ، مع علو الهمة نحو تحقيق الهدف والتوكل أولاً وأخيراً على الله، هي عوامل أساسية رئيسية لتحقيق أي نصر أو إنجاز، وهي قد توافرت في الفئة القليلة التي مكثت مع طالوت، فكان النصر..
قانون كوني دقيق. من التزم به انتصر، ومن خالفه خسر.

الخميس، 6 سبتمبر 2018

أربعـون يوماً بلا وسائل تواصل !!


    
   تكملة لما بدأنا به الحديث في المقال السابق حول موضوع وسائل التواصل وتجربة الانقطاع عنها رغبة لا رهبة، أواصل الحديث اليوم حول التجربة التي استوحيتها من حملة تقوم عليها الجمعية الملكية البريطانية للصحة العامة، التي بدأت قبل أيام في بريطانيا تحت شعار " سبتمبر بلا تصفح "، التي تستهدف متصفحي عدد من التطبيقات التواصلية التي استحوذت على اهتمام العالم لا سيما الشباب، وهي " تويتر، فيسبوك، انستغرام ، سناب شات ومعهم واتز آب"، واعتبرت ذلك الانبهار والانشغال بها أقرب الى الإدمان الذي يجب معالجته الآن وقبل فوات الأوان..

ولأننا نعيش زمن الثورة المعلوماتية والاتصالاتية، ولأن القوة العسكرية لم تعد معياراً وحيداً دالاً على قوة أي دولة فقط، من بعد أن تم إضافة السيطرة على وسائل الاتصال ووفرة المعلومات كمعايير جديدة، صارت القوى الكبرى تبعاً لذلك تتسابق فيما بينها للهيمنة عليها وأن تكون ذات اليد العليا في ميادين الاتصال والمعلومات.. وصارت برامج التواصل ضمن أدوات ووسائل تلك القوى للهيمنة على العالم، وهذا يفسر لك سر مجانية تلك الخدمات، رغم أن المجانية في عالم رأسمالي متوحش، لا معنى ولا وجود لها. إذ أن الرأسمالية لا ترى الإنسان سوى عملة نقدية متحركة أو هدف تجاري متحرك. وتبعاً لذلك صرنا أشبه بفئران تجارب، نقوم طواعية وعن طيب خاطر، بتجربة ما تريد تلك القوى التي تقف وراء انتاج وإدارة تلك البرامج.   

·       من المستفيد من برامج التواصل؟  
 عودة لتجربة الابتعاد عن برامج التواصل الأساسية التي قاربت على الأربعين يوماً، وهي المدة التي يُقال إنها كافية لاكتساب عادة جديدة أو التخلص من عادة سيئة، وجدتُ أن لهذه البرامج التواصلية دون شك ايجابياتها الكثيرة، لكن في الوقت ذاته تحمل بالمثل الكثير من السلبيات أيضاً، وهي معروفة للجميع ويمكنك عبر محركات البحث في غوغل الحصول على سلبيات وايجابيات تلك البرامج، حيث لا أجد ضرورة لتكرارها هنا، بقدر ما أجد بعض الأهمية للحديث عن انطباعات وقراءات ومتابعات قمت بتدوينها خلال فترة المقاطعة الاختيارية.. منها أن التصدي لهذه الثورة الاتصالية والمعلوماتية الحاصلة الآن، هو أمر غير حكيم البتة، لأنها صارت حقيقة من حقائق العصر، وإن ما يحدث الآن هو أشبه بسيل جارف لا يمكن الوقوف أمامه، ولكن يمكن مسايرته ومحاولة استثمار قوة اندفاعه بصورة وأخرى من صور الاستثمار، بدلاً من الارتهان التام والاستسلام له وتركه يجرفنا إلى حيث يسير، وهو بالطبع لا يسير على هواه، وإنما ضمن برمجة معينة وخط سير محدد ستصب نتائجها في صالح أجهزة أمنية واستخباراتية للقوى الكبرى بالإضافة للشركات عابرة القارات، التي تبحث زيادة أرباحها كل دقيقة، هنا أو هناك ..

·        إدمان النت مرض نفسي 
 لقد بلغ الإدمان على تلك التطبيقات درجة، صارت بعض الدول مثل الصين وأستراليا وإيطاليا واليابان، تعترف وتقر بأن إدمان الانترنت لاسيما على تلك التطبيقات هو مرض نفسي، فيما تعترف كوريا الجنوبية بأن إدمان الانترنت قضية صحية عامة تحتاج إلى تلقي العلاج بالمستشفيات الحكومية، فيما لا تزال القضية مدار نقاش وبحث في الولايات المتحدة.
توصلت دراسة نشرت في دورية (الكمبيوتر والسلوك البشري) إلى أن الأشخاص الذين يقولون إنهم يستخدمون سبعة أو أكثر من منصات التواصل الاجتماعي، يكونون أكثر عرضة لمستويات مرتفعة من القلق بنسبة تزيد على ثلاثة أضعاف، مقارنة بالأشخاص الذين يستخدمون منصة أو اثنتين من منصات التواصل الاجتماعي، أو الذين لا يستخدمونها مطلقا.
   من طرائف هذا الموضوع، أنه في الوقت الذي يصرف الأمريكي مثلاً مبلغ 800 دولار لشراء هاتف، تجد الكثير من العائلات الأمريكية تصرف حوالي 90 ألف دولار لجعل أبنائهم بعيدين عن تلك الهواتف.. فقد افتتحت في وادي السليكون بالولايات المتحدة منذ سنوات خمس ماضية، الكثير من المصحات والعيادات التي تقدم علاجات لمرض (إدمان الانترنت) في ذات المكان الذي تجد فيه كبرى شركات التكنولوجيا في العالم مثل آبل وتويتر وفيسبوك وغوغل وغيرها !     

·       تقييم سريع للتطبيقات
بعد أربعين يوماً من تجربة الانقطاع عن وسائل التواصل، وجدت أن أكثر التطبيقات إزعاجاً ولا تجد خصوصية فيه، هو تطبيق "واتز آب" ، وخاصة لو كنت مشاركاً في أكثر من مجموعة.. أما التطبيق الأكثر جلباً للتوتر وسوء المزاج واكتساب سلوكيات غير طيبة مع الوقت، هو دون منازع تطبيق " تويتر" ، فيما تطبيق " سناب شات" صار رمزاً لتضييع الوقت ووسيلة للتكسب والشهرة السريعة قصيرة الصلاحية، كالفقاعات الصابونية التي لا تستمر طويلا.. ويبقى تطبيق انستغرام هو الأهدأ وإن بدأ يتحول مع الوقت إلى منصة تجارية للبيع والشراء، فضاعت مهارات وفنون التصوير ورصد اللحظات الجميلة بين حسابات ودعايات المطاعم والملبوسات ومكاتب الأفراح والأزياء وغيرها ! ويستمر بالطبع التطبيق العملاق " فيسبوك " في جمع المعلومات عنك وعن أصحابك ومهاراتك وهواياتك وميولك ومزاجك، والتي تقدمها للتطبيق مجاناً وطواعية !
·       كن أنت المسيطر لا العكس
   إذن كما رأينا التناقض في وادي السيليكون الأمريكي، ووجدنا من ينتج الوسائل الإلكترونية التي تجلب معها مشكلاتها والتسبب في الإدمان عليها، وفي الوقت ذاته وجدنا في المكان نفسه من يعالج آثار الإدمان على تلك الوسائل.. كل ذلك يشير بوضوح إلى أن المشكلة ليست كامنة في تلك الوسائل أو البرامج بقدر ما هي كامنة في المستخدم نفسه أو نفسها، وهذه هي النقطة الأساسية التي أردت الوصول إليها في خاتمة هذا الموضوع.  
   الإنسان هو من بيده أن يعيش في صحة وعافية، ومزاج راق وأعصاب هادئة، أو يهلك نفسه بنفسه ويتعرض لتوترات واكتئابات واحباطات وغيرها من مشاعر، تدمر وتستهلك طاقة الإنسان أكثر مما تبني وتعطي.. هذه الوسائل التقنية التي بين أيدينا، وإن كانت تعمل لحاجات في نفوس صانعيها ومديريها ومروجيها، فإنها يمكن أن تكون وسائل مفيدة إيجابية إن أحسن أحدنا التعامل معها والسيطرة عليها، لا أن تسيطر هي علينا، وهو الحاصل اليوم مع الغالبية العظمى من المستخدمين حول العالم، وهذا ما استدعى دولاً كثيرة للتحرك عبر مؤسساتها المتنوعة والتدخل والانتباه الآن وقبل فوات الأوان، باعتبار أن العالم حديث عهد بالإنترنت وبهذه الوسائل التواصلية، وأنه ليس من الحكمة ترك الأمور على عواهنها، بحيث يسيطر أصحاب تلك الوسائل على أفئدة وألباب المستخدمين كما الحاصل اليوم.  يجب الدعوة إلى ضرورة استخدامها بوعي وحكمة ومهارة أيضاً، فإن لم نتنبه للسلبيات والمؤثرات الضارة التي بدأت تخرج للعلن بسبب الإدمان على الانترنت وملحقاته، والإفراط في الاستخدام، فإن الأمر سيبدو غامضاً وربما مخيفاً بعد قليل من الدهر يمضي..
   لكن رغم كل هذا، لا يمكن القول بأن وسائل التواصل غير مفيدة، بل يمكن عبرها تحقيق الكثير من الإيجابيات، ولن يقع هذا إلا بشرط التقليل من السلبيات. وهذه هي المعادلة الرياضية المطلوبة. التوازن فالتوازن ثم التوازن في الاستخدام، فكل شيء زاد عن حده، انقلب ضده كما تقول العامة.
·       آخر سؤال..
قد يسأل سائل: ماذا استفدت من التجربة وماذا خسرت؟ لا أخفيكم سراً أني واجهت بعض الصعوبة في الأيام الأولى من الانقطاع عن هذه البرامج. لكن مع العزم والإرادة وشيء من الصبر، بدأت التحرر التدريجي من سيطرة تلك البرامج على وقتي وتفكيري، بل وجسمي كذلك. قد أكون خسرت " التواصل الشبحي " مع الأصدقاء والمعارف عبر الواتز آب وتويتر مثلاً، لكن بالمقابل بدأت أجني مكاسب السيطرة على الوقت، حيث قرأت قرابة ثلاثة كتب في فترة الانقطاع، واستمعت للكثير من الدروس القيمة عبر تطبيق " بودكاست " وجدول النوم صار أفضل من السابق، وآلام الرقبة والكتف اختفت، ومجال الحركة توسع وازددت نشاطاً، واكتشفت كذلك بأن التحدث إلى العائلة والأقارب والأصدقاء بكل جوارحك أمر ممتع جميل، بدلاً من الجلوس معهم جسمياً، فيما ذهنياً تكون منشغلاً بآخرين..
   لن أظل أسرد الإيجابيات. لكن أدعوك فعلاً إلى التجربة واكتشاف الأمر بنفسك.. ولك أن تتابع قبل التجربة، هاشتاق بريطاني نشط حول الموضوع نفسه (#ScrollFreeSeptember  ) لترى مدى التفاعل الحاصل من الانجليز مع حملة المقاطعة هذه، ولتبادر أنت أيضاً. فلن تخسر شيئاً بإذن الله.. جرب ولن تندم.

الخميس، 30 أغسطس 2018

أن تعيش شهراً بلا وسائل تواصل..


    
كثيرون - كما أرى -  يمكنهم العيش سنوات بلا وسائل تواصل، وليس شهراً واحداً فقط كما قام كاتب السطور بالتجربة منذ بداية هذا الشهر إلى يوم الناس هذا. فقد وعدت كل من له صلة بي عبر تطبيق "واتز آب"، وكذلك المتابعين الكرام في تطبيق " تويتر "، أن أغيب شهراً كاملاً ثم أعود بداية الشهر التالي وهو سبتمبر بإذن الله، لأحدثهم - إن كان هناك ما يستحق الحديث – عن تجربة العيش بدون وسائل التواصل الاجتماعي المعروفة عالمياً. وها أنا اليوم أصل إلى اليوم الثلاثين من شهر أغسطس بدون أي استخدام لتلك التطبيقات والبرامج.. وإليكم القصة بشيء من التفصيل..    
      

  فكرة الابتعاد عن وسائل التواصل جاءت من وحي حملة تقوم عليها الجمعية الملكية البريطانية للصحة العامة منذ أشهر، للقيام بحملة التوقف عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لعدد من التطبيقات المشهورة عالمياً لشهر كامل، ابتداء من يوم بعد غد السبت، تحت شعار (سبتمبر بلا تصفّح) في إطار حملات صحية أقيمت سابقاً في بريطانيا للحد من التدخين وأخرى للتوقف عن شرب المسكرات. ويبدو لي أن نتائج تلك الحملات كانت مشجعة، ما دفعتهم لحملة صحية جديدة ولكن هذه المرة للحد أو تغيير طريقة التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي التي أدت، بحسب بحث استقصائي لخلاصة مفادها، أن إدمان التواصل على منصات وسائل التواصل سبب للقلق والاكتئاب وفوضى النوم، وطالبت الحملة التي تستهدف مستخدمي تطبيقات مشهورة كما أسلفنا مثل " فيسبوك، تويتر، انستغرام، سناب شات " بالتوقف عن استخدامها لشهر واحد فقط، لكي يقوم كل مستخدم أثناء الشهر بتدوين ملاحظاته وكيف ستكون أوقات يومه دون تلك البرامج، إلى غير ذلك من أهداف تسعى الحملة لتحقيقها خلال سبتمبر.

  لا أخفيكم سراً إن قلت بأن الأمر لم يكن سهلاً في اليوم الأول والثاني من مقاطعتي لتلك الوسائل، ربما بسبب مبالغتي في الأمر وصرت ملكياً أكثر من الملك، حيث قمت بتحويل الهاتف إلى وظيفته الأساسية الأولى وهي الاتصال فقط. إذ قمت بفصله عن الإنترنت أيضاً. ولكم أن تتخيلوا هذا الهاتف الذي كنت أشحنه مرتين باليوم، كيف صمت وبدا لطيفاً هادئاً، بل لم أكن ألتفت إليه لساعات طوال باليوم. فقد دخل في سبات عميق لا يقوم إلا على تنبيهات برنامج الأذان فقط، أو صوت رسالة نصية من البنك أو بعض الإعلانات المزعجة، وفيما عدا ذلك لم يكن يعمل، وبالتالي لا مجال لاستهلاك البطارية، التي لأول مرة منذ سنوات، استمرت مشحونة لقرابة 52 ساعة !

  من أطرف المواقف التي صادفتني وفي اليوم الأول للتوقف عن استخدام وسائل التواصل، ما حدث بعد إنهاء معاملة لي في البنك. وما إن وصلت المنزل حتى وجدت اتصالاً من البنك ذاته يعتذر الموظف المتصل أنهم لم يكملوا اجراءاتهم الخاصة بمعاملتي، بسبب عدم وجود صورة لبطاقتي الشخصية، وطلب مني بكل لطف ان أرسل صورة منها عبر " واتز آب " لسرعة إتمام المعاملة، ولم يكن أمامي إلا خيارين، إما العودة للبنك وتسليمهم الصورة بنفسي مع ما في ذلك من عناء وتضييع للوقت وبقية تفاصيل تعرفونها، أو إعادة الاتصال بالنت وفتح التطبيق واكمال الاجراء، ثم العودة الى ما كنت عليه قبل دقائق. فكان من المنطقي اللجوء للخيار الثاني، فقمت بعد تلك الخطوة بتسجيل ملاحظة أولى خلال حملة المقاطعة، سنأتي عليها لاحقاً..  
    

 وها هو كاتب السطور إلى الآن مستمر في الانقطاع عن برامج التواصل، وفي الذهن خاطرة أكاد أرحب بها، وخلاصتها أن أستمر إلى أربعين يوماً، باعتبار ما تعارف عند بعض الباحثين في أمر تعديل السلوكيات والعادات، أن (التطبّع يغلب الطبع) وأن المدة اللازمة لتعديل أي سلوك أو طبع معين هي أربعين يوماً، وقد استند البعض في ذلك إلى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كُتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق". فقد اشترط العلماء في وقوع هذا التغيير للسلوك وحدوث أمر المواظبة على الصلاة التتابع. بمعنى أن يصلي لأربعين يوماً متتابعة حتى يحدث التغيير، لا أن يصلي أياماً ثم ينقطع فيعود وينقطع.. هذا الانقطاع لا يضمن حدوث تغيير السلوك المرجو.
   
من ذلك الباب، ولأنني صبرت ثلاثين يوماً بعيداً عن وسائل التواصل، فما الضير لو صبرت عنها عشرة أيام أخر، وبها أتم أربعين يوماً كاملة، فقد يحدث واعتاد على السلوك المرجو، وهو التخلص من إدمان التعامل مع الهاتف بكل ما يحتويه من برامج تواصلية، والتي أخذت من الوقت والصحة وكذلك العلاقات الاجتماعية الحقيقية الكثير الكثير.. ويبدو وأنا أكتب هذه الكلمات الآن، أن شعوراً قوياً يدفعني لإكمال الثلاثين بعشرة أيام أخر، وكلي رجاء الخروج بنتائج طيبة من هذه التجربة أو المقاطعة المدروسة المقصودة لوسائل التواصل الاجتماعي..

 لكن ماذا يمكن القول بعد شهر من هذه المقاطعة؟
    هذا هو محور حديثنا في المقال القادم بإذن الله، وأرجو في الوقت ذاته أن تعذروني على الإطالة، فالموضوع متشعب وكبير والمساحة ها هنا لا تتسع لكثير سرد، وقد رأيت من الأفضل عدم التوسع أكثر من هذا، بل تجزئة الموضوع، رغم إدراكي بأن المطولات من المقالات والموزعة على حلقات أمر مكروه غير محبذ لدى القراء الكرام، في عالم سريع متسارع.. ولكن من باب الضرورات التي تبيح المكروهات أحياناً، سأضطر إلى هذا مع وعد بعدم تكراره مستقبلاً بإذن الله.. فإلى لقاء قادم بعد أسبوع من اليوم، أكون قد قاربت على الأربعين يوماً، أسرد لكم في الجزء الثاني من هذا المقال، بقية التفاصيل وبعض الانطباعات والخلاصات لمن أراد وأحب المتابعة والاستزادة في هذا الموضوع.  

الخميس، 26 يوليو 2018

ما بين سلطان العلماء وعلماء السلاطين ..


  اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذلُ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.. بهذه الكلمات أنهى العز بن عبد السلام، خطبته التي خصصها للاعتراض على تعليمات الملك الصالح إسماعيل يومها، الذي دخل في اتفاقيات صلح مع الصليبيين ومنحهم مناطق في دمشق، وسمح لهم بشراء الأسلحة والتزود بالطعام. فقام سلطان العلماء، العز بن عبد السلام في خطبة نارية، وحرّم الصلح مع الإفرنج وبيعهم السلاح، ثم لم يدع للملك نهاية خطبته كما كانت العادة، فاعتبره الملك عصياناً وتم اعتقاله.. 
   اشتهر العز بن عبدالسلام في التاريخ الإسلامي على أنه من أولئك الذين اقترنت أسماؤهم بمواقفهم لا مؤلفاتهم وتصنيفاتهم، على رغم جهده وغزارة علمه في جانب التأليف، لكن ذلك لم يكن ليشغله عن مقاومة الظلم ومواجهة الحُكام عند الخطأ، والجهاد ضد أعداء الأمة يومها من الصليبيين ومن ثم المغول. سيرته ومواقفه تصلح اليوم لاستحضارها من عمق التاريخ وإبرازها للأمة، بعد أن ظهرت نماذج من علماء، تعارف الناس على تسميتهم بعلماء السلاطين، الذين اشتغلوا بالدين لدنياهم ودنيا غيرهم، وصاروا يضعون فتاواهم وعلمهم تحت طلب كل حاكم أو زعيم.. 
العز بن عبدالسلام ومواجهة الملك     
   من المواقف الشهيرة في تاريخنا، وفي إحدى أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة المسلمة، حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، بروز دور العالم الرباني الصادع بالحق، العز بن عبدالسلام، الذي لعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول، الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وأنهوا الخلافة العباسية في بغداد حتى وصلوا أبواب القاهرة..
   
مما يحكى عنه، أن قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ.. وهكذا استمر الأمر حتى معركة عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد..

علماء السلاطين .. حواشي للحاكمين   
    اليوم تمر الأمة بظروف وأحوال لا تختلف كثيراً عن الفترة التي عاش فيها سلطان العلماء، العز بن عبدالسلام. الأمة مبعثرة بين الشرق والغرب، والتناحر بين الدول الإسلامية واقعة ومشاهدة، وجيوش علماء السلاطين تظهر هنا وهناك مثل فقاعات الصابون، تراهم يدورون في أفلاك الزعماء والحكام، يبيعون دينهم بدنياهم ودنيا غيرهم.. قدراتهم في ضبط ورسم الفتاوى المرغوبة من الزعيم، عجيبة ودقيقة. كل فتوى بثمنها. مالاً كان أم وجاهة أم منزلة أم غير ذلك من أثمان..
  استغرب الشيخ محمد الغزالي من نوعية علماء السلاطين المشتغلين بالعلم الديني الذين:" قاربوا مرحلة الشيخوخة وألفوا كتباً في الفروع، وأثاروا معارك طاحنة في هذه الميادين.. ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يخط حرفاً ضد الصليبية أو الصهيونية أو الشيوعية.. إن وطأتهم شديدة على الأخطاء بين أمتهم، وبلادتهم أشد تجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم.. بأي فكر يحيا أولئك ". 
   ثم يصل للنقطة الجوهرية والعلة التي تعاني منها الأمة اليوم، علة ابتعاد علماء الدين عن قول الحق، ووصولهم إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، هو ارتماؤهم في أحضان السياسيين، ملوكاً كانوا أو زعماء.. فيقول الشيخ الغزالي:" أوروبا سبقتنا إلى تقليم أظافر حكامها، فقتلت بعضهم في ثورات حانقة ووضعت دساتير دقيقة لضبط مسالك الباقين، حتى صار الحكم هناك خدمة عامة، يُختار لها الأكفأ ويُراقب من خلال أجهزة يقظة، ويُطرد ولا كرامة، إن بدا منه ما يريب.. أما الشرق الاسلامي فان الفساد السياسي بقي في أغلب ربوعه، وما يثير الدهشة أكثر وأكثر هو موقف المشتغلين بالعلوم الدينية وفقه الشريعة.. كأن هؤلاء كونوا بطريقة خاصة ليكونوا حواشي للحاكمين !  السقوط الخُلقي وخلل التفكير الفقهي عند الجم الغفير من المتكلمين في الفقه آفة بعض رجال الدين ."

 علماء السلاطين إذ هم ينكشفون

إن الاستبداد السياسي يتولد من الاستبداد الديني كما يقول الكواكبي، وإنه:" ما من مستبدّ سياسي إلى الآن، إلا ويتخذ له صفة قداسة يشارك بها الله أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله. ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمة الدين، يعينونه على ظلم الناس باسم الله.. وإنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء.. فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفا من إنكارهم..".

لقد ساعدت التقنية في الاتصالات والمعلومات اليوم على كشف الكثير من علماء السلاطين، وساعدت على رصد كل ما كان منهم وما هو كائن الآن، وصار بالإمكان تسجيل وحصر ما كان عليه أحدهم قبل وبعد. أي يوم أن كان عالماً يعمل لدينه ويبتغي رضى خالقه، ويوم أن تحول ليشتغل بدينه لدنياه ويرضى مخلوقات الله على اختلاف مآربهم ومشاربهم..
لكن الخشية من هذا الكشف، مثلما أنه نافع وإيجابي للتفريق بين الحق والباطل، فقد يكون كذلك عامل تأثير سلبي على العامة، ومصدر يأس وانتكاسة عند الناس.. فقد كان كثير من أولئك العلماء في منزلة عالية راقية، ينظر الناس إليهم بثقة واطمئنان كنماذج يُقتدى بها، فإذا وبقدرة قادر يتحولون إلى وضع قابل للتندر أولاً، ومن ثم صاروا ثانياً، عامل تشكيك عند البعض في الدين نفسه !
هكذا بلغ الحال.
    لا شك أن كل أحد منا معرّض للفتن، وكل أحد قابل للسقوط أو الصمود، لكن وقوع العلماء وقت الفتن والمحن، لا ريب أنه أشد ضرراَ على الأمة.. هذه الأمة التي لم يهدأ لها حال منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدة إلى يوم الناس هذا.. وما كان يجري قديماً على مدار تاريخنا مع العلماء الحقيقيين الصادقين من محن وابتلاءات، نراه يجري اليوم مثله وربما أسوأ مع علماء حقيقيين أيضاً، يقبعون وراء الزنازين في بقاع العالم الإسلامي المختلفة..  

 خلاصة الحديث
     إنه رغم كل ذلك، ومثلما انتشر وظهر علماء السلاطين أيضاً على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور نماذج من العز بن عبدالسلام، والحسن البصري وابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وآخرين كثر، يصدعون بالحق لا يخافون في الله لومة لائم.. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها مقترنان بصلاح ونهضة علمائها.. أليسوا هم من قال فيهم الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم في حديث طويل:".. العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"؟


   إذن ولأنهم ورثة أنبياء، صارت مهمتهم عظيمة ومسؤوليتهم كبيرة، وسقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية، فإن أمة ظهر فيها مثل العز بن عبد السلام لتنجو بفضل الله ثم هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإن سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فإن الله بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.