أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 12 يوليو 2018

من المنجم التشيلي إلى الكهف التايلندي.. قصتان


ثمـانيـــة أعوام هي فترة ما بين قصـتيــن إنسانيتين استحوذتا على اهتمام العـالم  والذي عاش أياماً عديدة يتابع تفاصيل وتطورات القصتين.. الأولى قصة احتجاز عمال منجم في تشيلي عام 2010 والثانية قصة الفتيان الذين حجزتهم مياه الأمطار في كهف بتايلند في 2018


   إذ بعد احتجاز دام سبعين يوما تحت عمق بلغ 600 متر تقريباً، استطاعت الحكومة التشيلية بتضافر جهود عدد من مؤسساتها في الوصول إلى عمال منجم "سان خوسيه" الثلاثة والثلاثين، في انجاز محسوب للبشر حين تتكاتف جهودهم، بغض النظر عن اختلافات الدين والعرق والسياسة وغيرها.. 

 لكندعونا نعيد شريط الأحداث بسرعة ونعود إلى أغسطس من صيف عام 2010 في صحراء تشيلي.. عمال يعملون تحت الأرض، ولظروف معينة تنقطع بهم السبل، فيجدون أنفسهم محتجزين على عمق أكثر من نصف كيلو متر، لا يجدون طريقة للخروج كالمعتاد.. فتتضافر الجهود فوراً على سطح الأرض للإنقاذ، لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي كانت متوقعة.. مباحثات واجتماعات كثيرة تجري، مع الأخذ بعين الاعتبار نقطة جوهرية هي الحفاظ على سلامة المحتجزين، فإن أي إجراء للإنقاذ ما لم يكن مدروساً ومحسوباً بدقة يمكن أن يتسبب في حدوث انهيارات ويموت العمال ويدفنون تحت الأرض وتزهق حياة 33 إنساناً، ينتظرهم أضعاف ذاك العدد على السطح، من الأهل والأقارب والزوجات والأبناء والمعارف والأصدقاء، الذين توافدوا على الموقع بعد سماعهم بالخبر..

   بعد فترة من الزمان لم تدم طويلاً في التخطيط، اهتدى التفكير التشيلي الذي ربما تضافرت أفكار دولية أخرى معه، وتوصل إلى فكرة صناعة كبسولة تكفي لشخص واحد مربوطة برافعة يتم ارسالها الى موقع العمال، من بعد أن يتم حفر نفق عمودي إلى الموقع. بعد ذلك بدأ التخطيط لعملية الإنقاذ التي بدأت يوم 12 أكتوبر وبعد مرور 69 يوماً على وجود العمال في ذاك العمق، وفي ظروف مادية ونفسية سيئة.. وبالطبع أثناء التخطيط والتفكير لم يتم نسيان المحتجزين واحتياجاتهم من الطعام والشراب والهواء والدعم النفسي.. وهكذا إلى أن انتهت القصة بإخراج جميع العمال، الذي كان أكبرهم يبلغ من العمر 65 عاماً وأصغرهم في التاسعة عشر من العمر ولم يكن قد انتهى من الثانوية بعد.
  
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل انتهت القصة؟

 عملياً وعلى الأرض، نعم انتهت القصة يومها، ولكن لم ينته حينها عند البعض الآخر المتربص بهكذا فرصٍ حياتيةٍ لا تتكرر كثيراً، أمثال منتجي الأفلام وكتّاب القصص والروايات وبالطبع وسائل الإعلام المختلفة.. ولقد كان من أبرز ما تم القيام به بعد الحادثة، انتاج فلم سينمائي تحت اسم 33 عام 2015، يحكي لحظات إنسانية صعبة لا يعيشها كثيرون، وكيف أن الإنسان حباه الله بإرادة وقدرة على تخطي الصعاب، إن هو استخدمها بوعي وحكمة..


قصة أطفال الكهف..   
القصة الثانية تحدث في تايلند بعد ثمانية أعوام من الأولى، لفريق كرة قدم مكون من 12 صبياً مع مدربهم، حين قاموا بدخول كهف على سبيل الاستكشاف والرياضة. وحدث أن هطلت أمطار وبغزارة خارج الكهف وهم قد تعمقوا في السير داخله إلى مسافة أربعة كيلومترات، ولم ينتبهوا للأمر إلا بعد أن حاصرتهم المياه من كل جانب، وكانوا من حسن حظهم، قريبين من صخرة كبيرة استطاعوا الصعود والبقاء عليها وهم يرون منسوب المياه يرتفع تدريجياً، لا يدري أحدهم ما العمل وما يجب القيام به..

   استمروا على حالهم ذاك أكثر من عشرة أيام حتى تم الوصول إليهم، من بعد أن ذاع خبرهم ووصل للعالم كله، والذي تدافع عند هكذا حوادث لتقديم العون والمساعدة.. وبدأت عملية الإنقاذ في واحدة من أعقد العمليات بحسب الخبراء في هذا الجانب. وتم التفكير في عدة سيناريوهات وحلول لم تكن تنفع إلا واحدة، وهي الأخطر لكنها الوحيدة، وهي تدريب الصبيان على الغوص، على رغم أن أحد الغواصين الخبراء في تلك الفترة قضى نحبه في الكهف، الأمر الذي أثار الكثير من القلق والتوتر. لكن لم يكن باليد حيلة، فهذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ المحتجزين بالكهف، وهذا ما كان فعلاً. حيث خرج كل صبي مع اثنين من الغواصين المهرة في رحلة غوص طويلة وخطرة أيضاً، ونجحت العملية وانتهت في غضون أيام، وخرج الجميع بنجاح يوم أمس الثلاثاء.    
  
ماذا نستفيد من القصتين ؟
  
   إنه لا غنى لأي إنسان يتفاعل مع المواقف الحياتية المتنوعة، أن يتوقف لحظات أمام تلك المواقف والأحداث والقصص، يتذاكرها ويدرسها مع نفسه أو يتفاكر فيها وحولها مع غيره.. 
إن ما أثار الانتباه في قصة العمال التشيليين، الذين شاءت الأقدار أن يعيشوا حياة لا يمكن أن يتخيلها أحد من البشر أن يعيشها وللفترة التي قضوها وهي قرابة سبعين يوماً، لا هواء نقيا ً ولا شمساً ولا قمرا، ولا أهلاً أو أحبابا، بل لا ماء نظيفاً أو طعاماً مشبعا.. وبالمثل في قصة أطفال الكهف، حيث الظلمة والخوف والرطوبة والوساوس المتنوعة، وهي كلها مؤثرة على النفس الإنسانية وقد اجتمعت كلها دفعة واحدة.. لا شك أن الوضع لم يكن سهلاً أبداً على عمال المنجم، فكيف بفتية الكهف، الذين جل خبراتهم الحياتية لم تكن سوى خبرات ما بين البيت والمدرسة والألعاب الإلكترونية..


   لقد أكدت أحداث القصتين على أهمية وقيمة الإنسان، وخاصة في أوقات المحن والشدائد التي تكشف معادن الناس، وتتفجر فيها المشاعر الدافعة للعمل والابتكار، بل ربما يصل الأمر إلى الإبداع..  وتفيد الأحداث كذلك، أهمية تسخير العلم والتقنية في خدمة الإنسان، لتؤكد عمليات الإنقاذ في القصتين، المقولة الشهيرة أن الحاجة أم الاختراع.. فلولا قصة احتجاز العمال تحت ذاك العمق البعيد، ما ظهرت آلة الرفع وجاءت فكرة وكيفية الحفر وصناعة كبسولة الإنقاذ، على الرغم من أن شركات المناجم تعمل من عقود كثيرة في ظروف شبيهة، ولكن لم يهتد التفكير الإنساني إلى تلك المخترعات إلا نتيجة حاجة ماسة ضرورية في وقتها، وهي مخترعات ستكون دون شك، وسائل نافعة لمئات الألوف من العمال، لا يزالون يعملون في الظروف والمجال نفسه حول العالم.


  التفاعل الإنساني بدا واضحاً، والعالم يشاهد عمليات الإنقاذ ويتابعها في القصتين، ويتفاعل مع عمال المنجم أو أطفال الكهف، ومشاعرهم الجياشة الفرحة بقرب العودة للحياة والالتقاء بالأحبة، ليؤكد المشهد أن الأصل في العلاقات بين البشر هو الحب والاحترام والتفاعل مع بعضهم البعض بصور شتى، في الأفراح والأحزان وفي اليسر والعسر.. وأن الحاصل الآن من نزاع وشقاق وحروب هنا وهناك، إنما هو الاستثناء وليس الأصل.
   
  أخيرا تؤكد عمليات الإنقاذ في القصتين، على قدرة الإنسان حماية نفسه وبيئته ومن فيها ويرتبط بها - إن أراد ذلك - وقدرته على قلب الأمور السيئة وإحداث العكس، في تأكيد واضح لحقيقة أن الإنسان يولد وهو مجبول ومفطور على حب الخير والسعي إليه ونشره، وأن ما يحدث أو قد حدث وربما يحدث مستقبلاً من خلافات ومشكلات وتقاتل وصراع، خلاف فطرة البشر، وهو الاستثناء وليس الأصل. 

تلك كانت بعض المعاني التي يمكن التوصل إليها بقليل من التفكر والتدبر في عملية إنقاذ العمال والأطفال، ومن المؤكد أنها تحمل معاني أكثر وأكثر لمن أراد أن يتذكر أو يتفكر.
       

الخميس، 5 يوليو 2018

متى تتغير صورتنا السلبية في العالم ؟


    الصورة الذهنية للعربي عند كثيرين في الشرق والغرب، تدور حول شخصين متناقضين لا ثالث بينهما. الأول هو ذاك الشخص المترف النرجسي، الذي تُحركه نزوات وشهوات، عقيم الفكر لا جدوى منه في عجلة التنمية العالمية.. يملك ثروة طائلة لا يدري كيف يستثمرها ومستمر في تبديدها هنا وهناك، يعيش حياة كلها رفاهية ويديرها بكل سذاجة. صيد سهل لمن يريد أن يسرقه أو يستهبله. أما الثاني فهو لاجئ وطريد ومهاجر يبحث عن موطئ قدم، حتى إذا ما دخل بلد المهجر، صار عالة على ذاك البلد .. 
فهل الإنسان العربي بهذه الصورة فعلاً ؟
   إن قلنا بالنفي، فسيأتي سؤال ويطرح نفسه في هذا المقام ويقول: فكيف نشأت إذن تلك الصورة الذهنية السيئة عند كثيرين؟   
    وسائل الإعلام الغربية، لاسيما تلك التي يسيطر عليها صهاينة أو يمينيين متطرفين كارهين لكل ما هو غير غربي أبيض، لعبت دوراً مهماً في صناعة صورة ذهنية للإنسان العربي، وبالغت فيه كثيراً حتى انتقلت العدوى بقدرة قادر أو حيلة ماكر، الى الإعلام العربي نفسه الذي يُدار كثير من وسائله بأسماء عربية وإن بعقول ومناهج متغربة أو متصهينة، فأمسى هذا الإعلام معيناً على نشر تلك الصور المسيئة للعرب، وعاملاً مساعداً على ترسيخ تلك الصورة عند غير العرب..
   حين نتحدث عن صورة الإنسان العربي، فهي نفسها لا تختلف عن تلك الصورة الذهنية المرتبطة بالمسلمين في أنحاء العالم. فقد عملت وسائل إعلام كثيرة في الفترات الأخيرة، عربية وغربية، على تشويه صورة الإنسان العربي لاسيما المسلم، لأهداف سياسية معروفة، وربما ساعدها على ذلك بعض سلوكيات غير حضارية وغير مسؤولة تصدر من بعض العرب أو المسلمين، أعطت المجال واسعاً ورحباً لتلك الوسائل الإعلامية لإنتاج صور ذهنية بائسة عن العربي أو المسلم، تعزز أهدافهم وما يرومون إليه، وهو ما نراه ونستشعره في عالم اليوم.

الصورة الذهنية عادة تنشأ، كما يقول المشتغلون بعلم النفس، بعد تجارب واقعية من مشاهدات وتعاملات أو بناء على معلومات مقروءة أو مسموعة أو مرئية مكثفة، أو عبر اشاعات أو غيرها من مصادر المعلومات، فتكون النتيجة بعد كل ذاك الكم من المعلومات، نشوء صورة ذهنية معينة عن شخص أو مؤسسة أو شركة أو منتَج أو ما شابه ذلك، بغض النظر عن إيجابية أو سلبية الصورة الذهنية التي تكونت.
إشكالية الصورة الذهنية كامنة في صعوبة تغييرها أو محوها وإزالتها من الذهن ما إن تثبت وتترسخ. ومن هنا تحرص كثير من الجهات، سواء مؤسسات أو شركات أو حتى أفراد، أن تكون الصور الذهنية التي تبدأ تنشأ في الأذهان عنهم، إيجابية راقية منذ البداية، لأن تعزيزها وترسيخها أسهل من حدوث العكس وهو نشوء صورة سلبية، فإن إزالتها وتغييرها أو تعديلها، تكون غاية في الصعوبة والأمثلة حولنا أكثر من أن نحصيها..
كيف إذن نغير صورتنا السلبية ؟
   الإنسان العربي أو المسلم بادئ ذي بدء، ليس من الملائكة أو من الأنبياء كي لا يخطئ أو لا تغلبه أمراض النفوس المتعددة، شأنه شأن أي أحد يعيش على هذه الأرض. ومثلما أن هناك العربي المترف المسرف غير العابئ بما حوله، فكذلك هناك الحكيم الواعي، المدرك لما يجري حوله ويتفاعل مع الآخرين في العالم حوله بكل إنسانية وإيجابية. لكن حين يتم تسليط الأضواء على السلبيات عبر وسائل الإعلام المختلفة، العربية منها والأجنبية، ويتم نشر تلك السلبيات بتفاصيلها في المجالس والمنتديات ووسائل التواصل المختلفة وغيرها، فلا شك أنها ستغلب على الجوانب الإيجابية وتعطي انطباعات سلبية لدى المتلقي. 
   حين تقوم وسائل الإعلام الأجنبية عن عمد وتجاهل في كثير من الأحيان، وتلقى التأييد أو الصدى من بعض وسائل الإعلام العربية المتفرنجة أو المتصهينة، بتغييب النماذج الواعية الحكيمة والراقية في فكرها ورؤيتها للأمور في المجتمع العربي من مشرقه إلى مغربه، وتسلط الأَضواء على آخرين أقل حكمة وعلماً وثقافة وإدراكاً، وتبرز الجوانب السلبية من حياة الإنسان العربي أو المجتمع العربي بشكل عام، فالمؤكد أنها تقوم بترسيخ صورة ذهنية غاية في السوء والتشويه للعرب، تحتاج إلى سنين عديدة وجهود إعلامية مستمرة وكبيرة ومتنوعة لتغيير تلك الصورة..
   فما الحل ؟
   الحل يكمن عندنا في الداخل العربي، قبل أن نذهب بعيداً الى الخارج. نحن من يجب عليه رسم الصورة الذهنية الإيجابية أولاً عن أنفسنا، كي يرسمه غيرنا أيضاً.  نحن من عليه أن يحترم نفسه أولاً كي يحترمه الآخرون كنتيجة طبيعية وبالضرورة. فهكذا هي قوانين التعاملات بين البشر.
   هناك نوابغ من العرب والمسلمين في مجالات عديدة. هناك مفكرون واستراتيجيون وهناك مثقفون وأدباء وكتّاب، مثلما هناك أطباء وعلماء ومخترعون في تخصصات علمية مختلفة.. لماذا لا يظهرون في وسائل الإعلام العربية قبل الأجنبية؟  لماذا لا تعطى لهم نفس المساحات المتاحة لغيرهم من صعاليك الفن والأدب ومن على شاكلتهم في مجالات أخرى؟ فلا يجب إذن أن نلوم، والحال هكذا، الغريب الأجنبي إن هو بدأ في رسم صور سلبية عنا..
   من هنا أقول: إن الحل يبدأ من إعلامنا العربي عبر تهذيبه وتنظيفه من شوائب الفرنجة والصهينة المتغلغلة في شبكاته وإداراته، والكف عن تشويه صورتنا بقصد أو غير قصد، قبل أن نطالب إعلام غيرنا بذلك، وهذه أولى وأصعب خطوات تغيير صورتنا السلبية في أذهان العالمين، تتبعها خطوات أخرى أسهل وأيسر بكثير، وهذا لب موضوع اليوم.   

         

الخميس، 28 يونيو 2018

لو كنتُ وزيراً للتعـليم..

  
    

  بعيداً عن اللغة الأكاديمية، ومحاولة لجمع أفكار وخواطر مبعثرة حول التعليم، رأيت أن أضع ما استطعت من تلك الأفكار والرؤى والخواطر في مساحة محدودة كهذه الصفحة، بلغة سهلة لكل الأعمار والأفهام.. وما العنوان الذي اخترته إلا لبيان عظم وأهمية منصب الوزير، الذي لابد أن يأتي ومعه رؤية وبرنامج عمل واضحين، وله واسع الصلاحيات في تنفيذ برنامجه في فترة زمنية متفق عليها، تكون فيها محطات للتقويم والتقييم المرحلي، انتهاء بالمحاسبة النهائية وتقييم عمله بعد انتهاء الفترة المحددة. هذا الأمر لا أقصد به وزيراً معيناً، لكنه ينطبق بشكل عام على كل وزير.


  عودة إلى موضوع التعليم. فقد قالوا عنه منذ قديم الزمن، بأنه هو ما يتبقى للشخص بعدما ينسى ما تعلمه في المدرسة.. أي أن التعليم نوعٌ وليس كما. فالعقول ليست خزانات لحشو المعلومات فيها ومن ثم استظهارها وقت الامتحانات وتقييم الطالب وفق ذلك. وهي خلاصة ما يحدث في التعليم من الابتدائية حتى آخر سنة دراسية بالجامعة ! أليس هذا هو الواقع؟ 
أليس نظامنا التعليمي يخرج موظفين وليس متعلمين؟ 
   هذا هو ما يدفعنا دوماً إلى مناقشة أهمية تطوير وإصلاح التعليم، وهو ما يدعوني أيضاً للدخول مباشرة فيما أريد أن أطرحه كبرنامج عام مبدئي، قابل للنقاش المجتمعي حول التعليم وكيف يجب أن يكون في مجتمع عربي مسلم مثل المجتمع القطري. ولن أدخل في التنظير الأكاديمي، لكن هي محاور عشرة أطرحها سهلة ميسرة، والتي أرى أن التعليم عندنا، لابد أن تدور مفرداته ومؤسساته وهياكله حولها بصورة وأخرى.

 المحور الأول : القرآن الكريم 
نحن أمة قرآنية وهذه حقيقة لابد من الإيمان الجازم بها. كلما ارتبطنا بالقرآن وخاصة في التعليم، كلما تعزز عندنا شعور الانتماء إلى دين وأمة، وطردنا مشاعر الغربة والضياع أو اللاهوية واللا انتماء. شعور الانتماء يبدأ تعزيزه منذ بداية دخول الطفل أجواء التعليم والتعلم. سيكون القرآن هو الأساس، حفظاً وتجويداً وفهماً. يحفظ طالب الأول الابتدائي جزءاً من القرآن خلال عامه الدراسي، وهكذا إلى أن ينتهي من الثالث الثانوي، يكون حينها قد تمكن من ثلاثة أرباع القرآن، حفظاً وتلاوة وفهما.
  
المحور الثاني : السنًة النبوية الشريفة
إن تحدثنا عن القرآن فلابد أن يتبعه مباشرة، الحديث الشريف أو السنّة النبوية، باعتبارها الدليل التفسيري للقرآن. يكون طريقة تناوله كما القرآن منذ الأول الابتدائي، حفظاً لعدد محدد ومنتقاة من الأحاديث الصحيحة وبحسب وعي وإدراك سن الطالب، بحيث لا ينتهي من الثانوية إلا وفي جعبته ما بين مئتين إلى ثلاثمئة حديث صحيح، يكون قد حفظها وفهم مقاصدها ومعانيها، بحيث تكون تلك الأحاديث دليلاً ارشادياً له، يعيش على ضوئها بقية حياته العلمية والعملية.
  
المحور الثالث : الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام 
لأننا أمة ربانا القرآن على أهمية القدوات الحسنة، وإن خير القدوات هو النبي محمد – صلى الله عليه وسلم، فالواجب إذن أن يكون لهذا النبي الكريم مساحة هائلة في حياتنا ومنذ نعومة أظفارنا. لابد أن يكون للرسول الكريم حضوره الشريف في منهج التعليم منذ الأول الابتدائي حتى نهاية الثانوي. كل عام يتم تناول سيرته بصورة تناسب وعي وإدراك وفهم الطالب، بحسب سنه والمرحلة التي يدرس بها. بحيث ينتهي من التعليم العام وليس أحب إلى نفسه أحد أكثر من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وليس أحد أجدر بالاتباع غيره صلى الله عليه وسلم، وعن يقين راسخ وقناعة تامة لا تتزعزع، مع فهم تام لشخصيته الكريمة عليه أفضل الصلاة والسلام.

المحور الرابع : اللغة العربية 
هذه حقيقة أخرى لابد من ترسيخها في النفوس. اللغة العربية هي لغة العلم التي يجب أن نتعلم بها. بهذه اللغة يشعر الطالب حلاوة ولذة التعلم، حتى وإن كانت المصطلحات لاتينية أجنبية، فهكذا الحاصل في اليابان والصين وألمانيا وتركيا وغيرهم كثير. ومن هنا أجد الاهتمام باللغة، قراءة وكتابة وتحدثا، واجباً حضارياً يستدعي تقديم اللغة بصورة محببة تزيل الصورة الذهنية السيئة عنها، وأنها صعبة لا تتوافق مع العصر. لغتنا حية راقية تستحق مساحات زمنية واسعة من اليوم المدرسي. نريد طالباً قارئاً متحدثاً وكاتبا. هذا أمر غير معجز لكنه يحتاج لقناعات من القائمين على أمر التعليم قبل المتعلمين.  

 المحور الخامس : البحث عن المعلومة 
ولأننا نعيش عصر المعلومات والتقنيات، صار لزاماً تغيير كيفية التعامل مع المعلومة. لا نريد حشواً وتلقيناً لمعلومات صار الوصول إليها أسهل من تدريسها وشرحها وحفظها. مواد التاريخ والجغرافيا مثلاً لم تعد هناك حاجة لإجبار الطلاب على حفظها وتذكرها لأجل الاختبارات ومن ثم تتبخر مع الأيام. يكفينا اليوم تعليم الطالب كيفية البحث عن المعلومة وتوفير الأدوات اللازمة لذلك، فإذا تمكن منها يكون قد قطع شوطاً بعيداً في فهم واستيعاب المادة، دون إجباره على حفظ معلومات وأرقام وأحداث، ما ظهرت التقنية إلا للقيام بدور الأرشفة والحفظ والاستدعاء عند الطلب، بالإضافة إلى أدوار أخرى لها.. والشرح يطول في هذا الأمر، لكن خلاصته في ضرورة استثمار التقنية بالتعليم وفي أفضل صورة ممكنة.

 المحور السادس : اكتشاف ورعاية المواهب والمهارات
  يمكن اكتشاف المواهب والمهارات مبكراً، لكن من الخطأ تركها لتذبل وتضعف. أليس هذا هو الحاصل الآن؟  المهارات العلمية والأدبية والرياضية والفنية موجودة بين الطلاب وتحتاج إلى من يكتشفها.. وكلما تم التدريب على كيفية اكتشافها ومن ثم رعايتها والتخطيط لها، كلما أمكن انتاج الكثير من الخامات التي تكون قد صُقلت وأخذت حظها من الرعاية والاهتمام طوال سنوات الدراسة، بحيث لا يتبقى لها سوى القليل من التهذيب والتقويم والتعميق في المرحلة الجامعية، قبل الدفع بها في سوق العمل أو الحياة بشكل عام. حيث نكون قد دفعنا حينها الى المجتمع، المهندس والمعلم والطبيب والمحاسب والقانوني والرسام والرياضي والباحث والسياسي وغيرهم كثير كثير ممن سيفخر المجتمع بهم.

المحور السابع : المواطنة
 المواطنة هي مجموعة قيم وحقوق وواجبات لابد أن تترسخ في الأعماق منذ بدايات سن الإدراك والفهم. لابد أن يكون هناك منهج واضح ومتدرج يتعلم الطالب طوال سنوات التعليم العام تلك القيم، يعرف ما له وما عليه. يفهم القوانين المختلفة المعمول بها في الدولة، ويتعلم كيفية أداء واجباته تجاه دولته ومجتمعه وكيفية اكتساب حقوقه بالوسائل والطرق المشروعة، بالإضافة إلى تعلم مهارات ومبادئ العلاقات الإنسانية وغيرها من موضوعات تندرج تحت العنوان العريض وهو المواطنة.

المحور الثامن : النوع وليس الكم
كلما كان التعليم كمياً كلما زادت نسب الهدر عبر النسيان وغيره. وكلما كان نوعياً كلما ثبتت المعلومات والمهارات وترسخت في الأذهان والقلوب. هذا الأمر ينطبق تماماً على كافة العلوم الأدبية والإنسانية والعلمية وغيرها.. التعليم كلما اهتم بالكم على حساب النوع، كلما ضعف وصار يقترب من المظهريات ويتحول إلى وسيلة لكسب وريقات يستطيع بهن الطالب الحصول على عمل، وهذا أدى بالضرورة لأن يتحول التعليم إلى تجارة بل تجارة رابحة!
  
المحور التاسع : لا للامتحانات  
 وهل يتعلم الطالب عاماً دراسياً كاملاً من أجل ورقة تعطى له نهاية العام تفيد نجاحه أو رسوبه؟ نعم، هذا هو الحاصل. لكن هل هو الصواب؟ بالتأكيد ليس بالضرورة. إننا منذ ترسيخنا لمفهوم التعليم من أجل الشهادة، صار الطالب يدرس ويتعلم للامتحان والنجاح فيه بطريقة وأخرى. ولا يبدأ عامه الدراسي التالي بعد إجازة صيفية طويلة، إلا وقد تبخر معظم ما تعلمه ! فهل هذا هو التعليم؟ ألم نقل بأن التعليم هو ما يتبقى للشخص بعدما ينسى ما تعلمه في المدرسة؟ إن ما يتبقى للطالب هو ما كان يتعلمه باستمتاع لا ما كان عليه التعلم لأجل الامتحان نهاية الأمر.
حاول أن تتأمل هذا الأمر.

المحور العاشر : الوقت هو الحياة
 وهل يختلف أحد على أن الوقت هو الحياة. هذا الوقت لابد من مراعاته ونحن نتحدث عن التعليم. الوقت الآن طال عن الحد المعقول، لماذا؟ لأن التعليم خرج من النوع إلى الكم. وهي نتيجة طبيعية حين يدخل التعليم مجال الكم بعيداً عن الكيف والنوع والجودة. ساعات اليوم الدراسي طويلة تستدعي إعادة النظر فيها، تراعى فيها طبيعية المواد ما بين الإنسانية والعلمية وغيرها. 
   الإنسان منا تكون قدرات الاستيعاب عنده محدودة، وعلمياً ثبت أن هناك ساعات معينة من اليوم تكون قدرات الاستيعاب والإنتاج عالية وتنخفض تدريجياً، وأحسب ُ أن الطلاب والعاملين بالسلك التعليمي يدركون ماذا تعني الحصص الثلاث الأخيرة. بالإضافة الى أن مدة الحصة الواحدة لابد من إعادة النظر فيها أيضاً، وفوق كل هذا وذاك، روتين اليوم الدراسي طوال العام لا يتغير.. وهو ما يستدعي ضرورة التنويع والتغيير بحيث يكون لكل يوم أسلوبه وشخصيته، وبحيث يتم مراعاة أن يوم الطالب ليس مدرسة وواجبات مدرسية فحسب، بل هناك حياة اجتماعية يحتاجها كما العائلة كلها تحتاجها..
   الحديث في المحور العاشر يحتاج لتفصيلات كثيرة، شأنه شأن بقية المحاور التسعة التي ذكرناها بشكل عام دون الدخول في تفصيلات فنية وتربوية لا تتحملها مساحات محدودة كهذه الصفحة.. وتلكم كانت عشرة كاملة من المحاور، أردنا تقديمها لتكون أشبه بخارطة طريق، أو خطة عمل تهدف لإنتاج جيل كامل يخرج أفراده حفاظاً لكتاب الله وسنة رسوله، متقنين لغتهم قراءة وكتابة وتحدثا، معتزين بقدوتهم في الدنيا وقائدهم في الآخرة، مدركين حقوقهم وواجباتهم في مجتمعهم، وعلى يقين أن العلم والتعلم لا نهاية لهما وأن التعلم ليس لأجل الوظيفة، بل هو فريضة دينية قبل أن تكون فريضة دنيوية..
والله بكل جميل كفيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.    


الخميس، 31 مايو 2018

قبل أن نقول بحسرة: يا ليتني قدمتُ لحياتي


    آيات كريمات من سورة الفجر، تصور لك مشهداً من مشاهد يوم القيامة، حين يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى.. تراه يردد قائلاً (يا ليتني قدمت لحياتي) .. هذا الإنسان - كما جاء في تفسير ظلال القرآن، الذي " غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء، والذي أكل التراث أكلاً لمًّا، وأحب المال حباً جمًّا. والذي لم يكرم اليتيم ولم يحضُّ على طعام المسكين. والذي طغى وأفسد وتولى.. يومئذ يتذكر. يتذكر الحق ويتعظ بما يرى.. ولكن لقد فات الأوان وأنَّى له الذكرى؟ ولقد مضى عهد الذكرى، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحداً ! وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا ! وحين تتجلى له هذه الحقيقة، يقول ( يا ليتني قدمت لحياتي ).. يا ليتني قدمت شيئاً لحياتي هنا. فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة. وهي التي تستأهل الاستعداد والتَّقدِمةَ والادخار لها. يا ليتني.. أمنية فيها الحسرة الظاهرة، وهي أقسى ما يملكه الإنسان في الآخرة".
  حين يردد ابن آدم - الذي قد يكون أيَّ أحدٍ منَّا - تلك العبارة بحسرة وندم وألم، فإنما يرددها من بعد أن يرى حقيقة الحياة الخالدة، التي لم يقدم في حياته المؤقتة القصيرة هذه التي نعيشها، لما يجب الإعداد له وتقديمه لتلك الحياة الحقيقية الدائمة   .


   من الخبرات الحياتية التي يتعلم منها المرء كلما تقدم به العمر، أن الفرصة التي تأتيك في لحظة زمنية معينة، ربما لا تأتيك تارة أخرى بنفس الكيفية والظروف التي أتتك في المرة الأولى، وبموجب ذاك المنطق، يوصي المجربون والحكماء بانتهاز الفرصة من فورها واستثمارها أفضل استثمار.. وهل حياتنا الدنيا المؤقتة هذه سوى فرصة، يُحسِن استثمارها من يحسن، ويسيء من يسيء.
 ضمن سياق الفرص التي نتحدث عنها، يمكن القول إن رمضان هو أحدها أو إحدى المنح الربانية التي يكرم الله بها عباده، والحكيم الحصيف والذكي الفطن هو من ينتهز فرصة صحته وقوته حالما يرزقه الله بلوغ رمضان.
هذا الشهر إنما أيام معدودات، فما إن يبدأ حتى يبدأ عدّاد الرحيل بالاشتغال. إن انتهى اليوم الأول منه فلن يرجع إلا بعد عام كامل، وهذا أمر بدهي معروف لا يحتاج لتذكير وتنويه، لكن ما يحتاج للتنويه والتذكير هو أنه لا أحد يضمن لك الحياة أو الصحة والعافية والقوة لأن تلتقي باليوم الأول من رمضان العام القادم، بعد أكثر من ثلاثمائة وستين يوماً، ولعل هذا هو سر الدعوة إلى انتهاز كل لحظات هذا الشهر، واستثماره للغد الحقيقي، حتى لا يصل المرء إلى اللحظة التي يضطر حينها أن يردد عبارات الندم والحسرة على ما فرط وضيّع.

  إنه من قلة الحيلة والحكمة، إهدار الوقت في رمضان وعدم استثماره بالشكل الأمثل، فإن رمضان ما إن يبدأ حتى يعمل توقيت ساعته تنازلياً وبسرعة لا تفهمها، نعم قد يستشعر البعض ثقل أوقاته في البدايات، ولكن سرعان ما يعتاد المرء على النظام خلاله، فيبدأ التكيف مع الظروف، لكنه يفاجأ أنه دخل العشر الأواخر، وبعدها بقليل يجد نفسه أمام التلفاز في برنامج عن هلال شوال ينتظر خبر الرؤية!
    هكذا رمضان، كما الفرص الثمينة التي تلوح لنا في حياتنا فجأة، والتي إن لم نستثمرها بالسرعة المناسبة والشكل الأمثل، فإنها تذهب سريعاً وتختفي، لتبقى الندامة والحسرة بعدها! فمن يرضى أن يتعامل مع رمضان بهذه الصورة؟ 
في الحديث، نجد سيد الأولين والآخرين يحثنا على المسارعة إلى فعل الخيرات، قبل أن تلهينا شواغل الدنيا وما أكثرها: "بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا“، ويقول الحسن البصري رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره

    إن المسارعة إلى فعل الخيرات من أخلاق المؤمنين الصادقين ومن طبائعهم، وإن مثل هذه الأعمال إنما دلالة على رجاحة في العقل وسلامة في القلب، وحتى لا نطيل في الكلام أكثر، نقول بأن كل أحد منا سيأتي ويقابل جبار السماوات والأرض وحيداً منفرداً. لا شفيع ولا وسيط. سينظر سبحانه إلى أحدنا وما قدمت يداه، فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر، أو يحكم في خلقه ما يشاء، وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم أحدا.
 لابد أن ندرك أيضاً بأننا كتلٌ حية متحركة تحمل الذنوب والآثام، مثلما الخيرات والحسنات، ووجودنا مؤقت في حياة قصيرة جداً، والأهم من كل ذلك أننا على موعد أكيد مع الله، وهو ما يدعونا إلى التدرب على الانعزال بين الحين والحين، والتفكر ليوم الانعزال والانفراد ذاك مع الله.. تلك العزلة التي لا نتمنى أن نخرج عنها إلا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأخذ بأيدينا إلى تلكم الجنة التي عرضها السموات والأرض، ندخلها ونستمتع إلى أصوات خزنتها وهم يرددون ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ).

الخميس، 26 أبريل 2018

ترامب إذ يعـيد تاريخ الأندلس !!



    دولة الأندلس كانت عظمتها في وحدتها وتماسك جميع أطرافها وتجمعها تحت راية واحدة وحاكم واحد وشرع واحد، ونتج عن ذلك حضارة رائعة راقية.. لكن مع الزمن وشيوع الرخاء والتساهل في التعامل مع الأخطار الداخلية والخارجية المحيطة والمتربصة، وفي الوقت ذاته غلبة الطمع في نفوس البعض من المتنفذين، والجري وراء شهوات الاستئثار بالكراسي والخيرات تحت وابل من المبررات والأعذار، وصل الحال بالدولة الواحدة إلى أن تتفتت لتصل إلى أكثر من عشرين دولة..    

  هذا الانقسام الشديد لدولة الأندلس، ساعد المتربصين بها على الانفراد بكل دولة. وبدأ عهد الدخول في أحلاف ومعاهدات حماية مقابل الجزية، فكنت تجد كل دولة وقد بدأت تدفع الجزية لدولة نصرانية قريبة لأجل الحماية أو الدعم للإغارة على دولة شقيقة جارة، وهكذا تشتت مسلمو الأندلس إلا ما رحم ربي وقليل ما هم، وكان أبرز الصامدين أمام هذا التشتت والفرقة والخنوع والذل لممالك النصارى في تلك الفترة، المتوكل بن الأفطس حاكم دولة بطليوس، الذي رفض دفع دينار واحد للفونسو السادس ملك قشتالة، الذي بنى مملكته ووسعها بفضل أموال الجزية التي كان يدفعها ملوك وأمراء الطوائف في الأندلس له مقابل الحماية. وتحالف المتوكل مع يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين الشجعان، الذي وقف وقفة صارمة ضد ملك قشتالة الانتهازي، الذي لم يتوقف عن ابتزاز أمراء الطوائف ويمنّ عليهم بمسألة الحماية، وفي الوقت نفسه كان متربصاً بالجميع، ينتظر الزمن المناسب للقضاء على كل ما يمت للإسلام والمسلمين بصلة في أسبانيا..


وهكذا بين شد وجذب، انتهت حضارة الأندلس. ولمن أراد الاستزادة، أنصح أن يقرأ أو يستمع للدكتور راغب السرجاني حول تاريخ بلاد الأندلس من عهد عبد الرحمن الداخل حتى عهد أبي عبد الله محمد الثاني عشر من بني الأحمر، آخر ملوك الأندلس الذي رحل عنها وقد باع كل ما يملك لينهي بذلك قصة حضارة إسلامية رائعة ضاعت كغيرها من حضارات إسلامية هنا وهناك.
  
 التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي بمعية الرئيس الفرانكفوني أثناء زيارته لواشنطن، حول الدول الثرية بالشرق الأوسط ووجوب دفع تكاليف وجود القوات الأمريكية هناك، وأنه لولا الأمريكان لسقطت دول خلال أسبوع وغير ذلك من تصريحات ترامبية إعلامية غير منضبطة ومثيرة كالعادة، تجعل المرء يستحضر ويتأمل صفحات من تاريخ الأندلس، وكيف أن التاريخ يعيد نفسه فعلاً.. فما الفرق بين ملك قشتالة وترامب؟ لا شيء. كلاهما واحد. كلاهما دخلا عالم الابتزاز والاستغلال، والظروف تشابهت بين الماضي والحاضر.
    
   ملك قشتالة وملوك نصارى آخرون أقوياء، كانوا يعيشون بين عشرين دولة أو إمارة مسلمة. كل واحدة منها تتودد إلى هذا أو ذاك لحاجات في النفوس، فكان أولئك الملوك يقابلون ذاك الود والتقارب بالمال.. بمعنى أوضح: أعطونا دراهمكم نعطيكم ودنا وحمايتنا.. وهكذا أنهكت العطايا وأموال الجزية تلك الدول، فيما كانت تساهم تلك الأموال في اقتصاديات قشتالة وغيرها من ممالك النصارى فكانت تقوى أكثر وأكثر.. وهذا هو عين ما يقوم به ترامب وغيره من زعماء النصارى اليوم، مثل فرنسا وبريطانيا وغيرهما..
   
  رجل الأعمال الثري ترامب، والذي بقدرة قادر أصبح زعيم أقوى امبراطورية بشرية تعيش الآن، يتعامل مع نظرائه زعماء ورؤساء العالم كما لو أنهم مجموعة رجال أعمال أو مستثمرين أو زبائن. المال أولاً وثانياً وأخيراً. هو يبحث عن كيفية دعم خزينة دولته، بغض النظر عن الوسائل، فالغاية تبرر الوسيلة عنده وعند غيره كثير.. والابتزاز الذي يمارسه حالياً مع السعودية وغيرها من دول الخليج، إنما هو وسيلة من وسائل جمع المال، وهي وسيلة لا تبدو أن لها نهاية، ولا أرى كذلك رداً حاسماً حازماً من الطرف الخليجي، الذي بعثرته الخلافات وسهّلت على أي مبتز أجنبي، الانفراد بهم دولة دولة، واستغلال ما يمكن استغلاله، في مشهد أندلسي عجيب يكرر نفسه بعد أكثر من ألف عام!
     
  في هذا السياق، لا يمكن غض الطرف عن موقف مخز وكدليل على ما تفعله الفرقة والخلافات غير المبررة بدول الخليج، أن تجد ترامب يعلن من واشنطن ضرورة قيام دول شرق أوسطية بدفع تكاليف وجود القواعد العسكرية الأمريكية الحامية لها، فيقوم عادل الجبير من الرياض مقام الشارح الأمين لحديث ترامب، كما لو أنه المتحدث الرسمي للبيت الأبيض، ويطالب قطر بدفع تكاليف وجود القوات الأمريكية بسوريا ، لأن " النظام القطري " سينهار لو قرر ترامب سحب القاعدة العسكرية من قطر، في مخالفة واضحة لأبسط قواعد الدبلوماسية، التي أضاع الجبير بوصلتها منذ بدء الحصار الفاجر على قطر..
  
   خلاصة ما يمكن قوله في هذا الاستحضار السريع لتاريخ يكرر مشاهده من جديد، هي أن الفُرقة الضاربة جذورها في عمق العلاقات الخليجية، لم ولن تأت بخير على المنطقة. وما ابتزاز التاجر ترامب المستمر لدول الخليج، إلا إحدى ثمرات هذه الفرقة وهذا الخلاف غير المبرر. الابتزاز الأمريكي الفاضح، فتح شهية آخرين لممارسه الفعل نفسه، وقد بدأ البعض فعلاً والبقية في الطريق، كما لو أن ملك قشتالة وملوك النصارى الآخرين عادوا في صور ترامب وماكرون وغيرهم، يعيدون المشهد الذي كان مع ملوك وأمراء الطوائف في الأندلس، ليكون مع الخليج المتفرق.. ابتزازهم مستمر، وخلاف الأشقاء مستمر أيضاً، بل ويتعمق بصورة لا مؤشرات دالة على قرب نهاية سليمة لها، ما لم يخرج متوكل جديد يرفض هذا الابتزاز، يتعاون مع يوسف بن تاشفين جديد يقف وقفة الرجال معه ضد كل مبتز أجنبي، لا يرى الخليج سوى بنوك متحركة لا أكثر من ذلك..

فمن سيكون هذا المتوكل ومن هو بن تاشفين؟