أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأربعاء، 22 فبراير 2017

دار أبي سفيان

  الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومعه عشرة آلاف صحابي يدخلون مكة من أبوابها المختلفة في مشهد عظيم انتظره المسلمون أكثر من عشرين عاماً. دخلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشد ما يكون حرصاً ألا تُراق الدماء من الجانبين ويفسد المشهد المهيب.. لكن دخول مكة بهذه السهولة قد لا يخضع للأمنيات، إذ ربما هناك من مشركي مكة مَن لا يزال غير راض عما آلت إليه الأمور، ولا يريد الاستسلام سريعاً.. فما الحل؛ ورغبة خير البشر، ألا يُراق دم خلال عملية دخول المدينة المقدسة؟
  
   كان الحل الذكي في اقتراح العباس بن عبد المطلب على النبي الكريم، وتمثل في استثمار نفسية أبي سفيان بن حرب، العاشقة للزعامة والرياسة والبقاء في الأضواء، وخاصة أنه كان زعيم قريش يومها، وبيده قرار الحرب والسلم. 
فلما أسلم أبو سفيان، أكرمه الرسول الكريم بقوله:" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فجعل داره ضمن مواقع أخرى آمنة تم تحديدها. فأسرع أبو سفيان بعد إعلان إسلامه الى مكة منادياً، بأن من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره، فهو آمن. وأخيراً من يدخل دار أبي سفيان فهو آمن كذلك. 

 استغرب كفار قريش من موقف زعيمهم، واستغربوا أكثر وهو يعلن داره موقعاً آمناً للاحتماء من جيش المسلمين، فما عساها دار أبي سفيان أن تفعل أو تستوعب المئات في مثل هذه الأزمة العصيبة؟ تركه الناس وذهب كل أحد إلى داره، ينتظر قرار الزعيم الجديد، عليه الصلاة والسلام، حتى صدر بعد قليل من الوقت، وكان العفو، حسبما جاء في قولته الشهيرة البليغة:" اذهبوا فأنتم الطلقاء ".

الشاهد من القصة، أن الحكمة تقتضي منك أحياناً كثيرة، استثمار الظرف الأنسب لتحقيق الإنجاز والانتصار، حتى لو كنت أمام معركة حربية أو غيرها من المعارك الحياتية المتنوعة التي ستخوضها. فليست القوة دائماً تأتي بأفضل النتائج وأقل الخسائر، وهكذا صارت الأمور مع مسألة فتح مكة.
  
 لقد استثمر النبي الكريم، تركيبة أبي سفيان الشخصية، فقرر الاستفادة منها في تجنب معركة، لابد أن دماءً كثيرة ستُراق، إن نشبت وحمي وطيسها، فلم لا يكسب المطلوب بأقل الخسائر؟ فكان ما كان من أمر أبي سفيان، وخرج المسلمون يومها بنصر عظيم دون خسائر تُذكر.. وهكذا هم القادة العظام في المواقف العصيبة، والأزمات الكبيرة،  وليس هناك من هو أعظم من قائدنا إلى يوم الدين، حياً وميتاً؛ عليه وعلى آله وصحبه خير الصلاة وأزكى السلام. 

الثلاثاء، 21 فبراير 2017

الضمائر الساجدة

في اليوم والليلة نسجد أكثر من ست وثلاثين سجدة في الفروض الخمسة المعروفة، نختمها بركعة وتر آخر الليل. وقد يزيد بعضنا بحسب اجتهاده في السنن الرواتب والنوافل وما شاء له أن يصلي.. في حال السجود يكون المصلي أقرب ما يكون إلى الله، حيث يُستحب الإكثار من الدعاء، مع حُسن الظن بالله واليقين التام أن الله يستجيب له، عاجلاً أو آجلا، بصورة أو أخرى.

إن وضعية السجود فيها مذلة وإهانة كبيرة للإنسان مهما تكن الدوافع والرغبات، إلا في حالة واحدة لا ثاني لها، هي السجود لله، سواء في الصلاة أو خارجها. إنك حين تسجد للخالق خاشعاً ذليلاً، وتسجد معك كل جوارحك، تشعر بلذة لا يمكن وصفها، ولا يمكن أن تجدها في غير الصلاة، أو في غير السجود للهوكان النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - إذا أحزنه أمر وضاق صدره لأي سبب، يفزع إلى الصلاة. فقد أمره الله من بعد أن ضاق صدره للبذاءات والإساءات التي كان يسمعها من المشركين بقوله -تعالى- "فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين".
  ذهب المفسرون لهذه الآية إلى أن المراد بالسجود هنا الصلاة، وعبر عنها بذلك من باب التعبير بالجزء عن الكل، وذلك لأهمية هذا الجزء وهو السجود وفضله، كما جاء عن أبي هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".
  لا شك أنك ترى يومياً الكثير من الساجدين وقد سجدت جوارحهم في الصلوات، لكن لم تسجد ضمائرهم ونفوسهم المريضة. سجودهم ما هو إلا حركات رياضية ليس أكثر. فلا ضمير يهتز ويخشع، ولا نفس تحمد خالقها على نعمه الكثيرة على صاحبها. إذ تجد هذا الذي سجدت جوارحه في الصلاة ولم يسجد ضميره، قد ظلم هذا قبل الصلاة، ثم سيفتك بذاك بعد الصلاة. وهكذا يستمر في جبروته وإلحاق الأذى والضرر بعباد الله.
 لنكن أصحاب ضمائر تسجد خاشعة لله في الصلاة وخارجها، قبل أن تسجد جوارحنا. فأحدنا لا يدري ما يصل الله من دعوات وآهات من ظلمهم قبل صلاته ومن سيظلمهم بعدها. فما نفعُ الجباه الساجدة إذا كانت الضمائر فاتكة ظالمة؟


الأحد، 19 فبراير 2017

الأنانية .. نهايتها أليمة

  مهما شرّقت وغرّبت وطالعت في تاريخ وسير الأولين، فستجد أن كثيرين من أصحاب النهايات الأليمة، على اختلافها وتنوعها، كان حب الاستحواذ على الأشياء، أو الطمع في ما عند الغير، أو أنانية في غير محلها، من أسباب نهاياتهم.

  قابيل، أحد أبناء آدم عليه السلام، نهايته كانت أليمة. الطمع في ما عند غيره، كان سببها الرئيسي، بل أول من ارتكب جريمة قتل نفس بريئة، حتى صار قدوة لكل قاتل، وصاحب سنّة سيئة إلى يوم الدين.. وقس على ذلك ما قام به جبابرة وأباطرة، وملوك وزعماء على مدار التاريخ، والى يوم الناس هذا، من تصرفات وأفعال دموية وحشية، أهلكت الحرث والنسل.

  سلوكيات أولئك البشر، إنما ترجمة حقيقية على أرض الواقع، لأطماع النفوس أو أنانية بالغة أو حب شديد للاستحواذ وامتلاك ما عند الغير، بصورة وأخرى، وإن كانت بغير وجه حق هي الصورة الغالبة، لأن التراضي وتبادل الأملاك والخيرات، لا تفرز عنها دماء تسيل ولا أرواح تُزهق.


  إن مرض الطمع أو الاستحواذ على ما عند الغير، أو تلك الأنانية البشعة المتمثلة في حب تملك الأشياء، ومنع الآخرين منها، إنما هي أمراض نشأت منذ الصغر لم يتم التنبه إليها مبكراً، بل ربما وجَدَتْ بيئات مشجعة أو داعمة لها بشكل وآخر، حتى إذا تضخمت وانتشرت بالنفس، صارت أمراضاً قلبية، الشفاء منها عسير والسيطرة عليها أمرها غير يسير، فتؤدي بصاحبها إلى نهاية غير سعيدة، كنتيجة أخيرة نهائية.

  ما انتشرت الحروب والصراعات بين البشر، سواء على شكل أفراد أو جماعات وأحزاب، وصولاً إلى الدول، إلا نتيجة مرض الطمع فيما عند الغير، أو حب تملك الآخرين، أو أنانية عميقة لا تحب الخير للغير.. ولأن البشر ما زال كثيرٌ منهم ينشأ على مثل تلك الأمراض، تجد الأزمات والمشكلات والحروب والصراعات مستمرة إلى ما شاء الله لها أن تستمر، ولا سبيل للخلاص من تلك الأمراض إلا عبر تعميق الإيمان بالله، الخالق العادل، وبحياة أخرى قادمة لا ريب فيها. سيأخذ فيها كل ذي حق حقه، ولا يظلمُ ربك أحدا. 

الخميس، 16 فبراير 2017

أن تكون وحيداً مع الله


  العزلة تبدو أحياناً مرغوبة وبشدة، لاسيما في حالات شعور المرء بالهم أو الحزن والضيق، والرغبة في الانفراد مع النفس بعض الوقت، لا يتعرض خلالها لأي مؤثرات خارجية.. وتلك الرغبة غالباً تأتي بدوافع من النفس وأهمية الانعزال ولو لحين من الدهر قصير، من أجل إعادة النظر فيما مضى وفات، والتفكير فيما هو قادم وآت.

    إنّ التوجه نحو الانعزال أحياناً، يكون بدافع الفضفضة إلى النفس ليس غيرها. حيث لا يجد أحدنا في حال سيطرة الهموم والغموم على نفسه، أفضل من نفسه هو.. وأحسبُ أنك مررت بتجربة الانعزال مرات ومرات، وانفردت بنفسك عن الناس، ووجدت راحة نفسية لا توصف، بل ربما توصلت أثناءها إلى حلول ناجعة لكثير من عوالق المشكلات والمهمات في حياتك.  
    
   لكن هناك من يتجنب العزلة لأي سبب كان، فيما غيره لا يقوم بأمر إلا بمعية شخص أو أكثر، فالأمر ها هنا تبع للميول والأمزجة الشخصية، وربما يعود للتكوين النفسي والاجتماعي للشخص.


   إنّ الانعزال المخيف الذي يتطلب استعداداً وتدريباً من الآن، هو ذاك القادم مستقبلاً.. والواضح بذاته في الآية الكريمة (وكُلُهم آتيهِ يوم القيامة فردا)، أي وحيداً. لا زوج ولا أب، ولا أم ولا أخ، ولا صديق أو زميل، ولا مال أو بنين.. لا شيء من تلك المعونة أو الحماية البشرية، ولا شيء كذلك من تلك التي نتفاخر بها في الحياة الدنيا، من حشم وخدم، أو عشيرة وقبيلة أو غيرها..

كل أحد منا سيأتي ويقابل جبار السماوات والأرض وحيداً منفرداً. لا شفيع ولا وسيط. سينظر سبحانه إلى أحدنا وما قدمت يداه، فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر، أو يحكم في خلقه ما يشاء، وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم أحدا.

لابد أن ندرك أننا كتلٌ حية متحركة تحمل الذنوب والآثام، مثلما الخيرات والحسنات.. نذنب ونستغفر، نعطي ونتصدق، ووجودنا مؤقت في حياة قصيرة جداً، والأهم من كل ذلك أننا على موعد أكيد مع الله، وهو ما يدعونا إلى التدرب على الانعزال بين الحين والحين، والتفكر ليوم الانعزال والانفراد ذاك.. تلك العزلة التي لا نتمنى أن نخرج عنها، إلا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأخذ بأيدينا الى تلك الجنة التي لا نعلم طولها، لكن عرضها عرض السماوات والأرض فقط..
أحسنوا الظن بالله واسألوه العافية.

      

الأربعاء، 15 فبراير 2017

حاورهم بالحسنى


   ليس في اختلاف الآراء شيء يعيب، بل إن الأصل هو الاختلاف وهو الطبيعي أو هو المطلوب أن يكون في كثير من أمور حياتنا، بما فيها الدينية من تلك التي لم يأت نص صريح واضح بشأنها.. وما عدا ذلك فلا شيء أن نختلف، لأننا في الأساس مختلفون في الأهواء والأمزجة والعقليات.

  لكن مشكلة البعض في هذا الأمر، تجدها كامنة في فكرة قبول الرأي الآخر. تجده لا يستسيغ قبول الآخر بل ربما لا يتصور ذلك، والسبب في رأيي هو ضيق الصدر وقصر النظر. هذا إضافة إلى ثقافة الإلغاء أو الإقصاء التي يكون قد نشأ عليها أو تعلمها أو مر بها في تجربة حياتية قاسية، دفعته إلى إحياء وإعادة التجربة من جديد ولكن مع الغير، ليجد في التجربة نوعاً من التنفيس عما بنفسه، أو رغبة في إكمال عقدة نقص شديدة التأثير عليه، ربما يكون مبتلى بها، وبالتالي لا يجد طريقة مناسبة - حسب اعتقاده -  سوى تطبيق فكرة الإلغاء أو الإقصاء أو قهر المخالف، طريقة مناسبة للشعور بالارتياح، واستشعار قيمته أمام الغير!


  لا شك أن الإلغاء مرفوض في جدالنا الحياتي المتنوع، لكن الحوار هو الأداة الأسلم لتجنب كثير من المشكلات الناجمة عن ثقافة الإقصاء أو الإلغاء. ولهذا لابد لثقافة الحوار أن تسود مجتمعاتنا، انطلاقاً من دين رباني حنيـف يدعـو إلـى الجـدال بالتي هي أحســن، فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ، كأنه ولي حميم.

  إنها دعوة لتوسعة الآفاق والصدور، واستخدام التفاهم أسلوباً في التعامل بشكل عام، لأجل قبول الآخر، ليس لشيء سوى إظهار الحق لا غيره، ولأجل الوصول إلى حياة هادئة خالية من التوترات والمنغصات، التي أضحت وأمست تتكاثر كل حين حولنا، وإن هذا التفاهم أراه ليس إلا نوعاً من الحكمة، التي قلما تجدها في الناس. اليوم 

                                              إنها إذن دعوة للحكمة، التي هي ضالة المؤمن، أنّى وجدها أخذ بها.