أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأربعاء، 17 يونيو 2020

جادلتنا فأكثرتَ جدالنا

     

نوح عليه السلام أبرز مثال بشري حين نتحدث عن أهمية السعي نحو الهدف وعدم اليأس، وأهمية بذل كل الأسباب الممكنة لتحقيقه.. فقد جلس نوح عليه السلام يدعـو قومه أكثر من تسعة قرون وليست تسعة أيام أو حتى أعوام، رغم أنه لم يؤمن بدعوته أكثر من خمسة عشر إنساناً طوال تلك الفترة الطويلة، ومع ذلك استمر إلى أن أوحى الله إليه أنه لن يؤمن بدعوتك أكثر ممن قد آمن..

  ليست القصة هاهنا عن اليأس، بل عن تلك العقلية التي استمرت على ماهي عليه من معتقدات ومفاهيم، وانتقلت من جيل إلى جيل. عقليات العند والإصرار لكن على الخطأ، وإن تبين الصواب في وقت من الأوقات.

   عقلية العناد تؤدي بصاحبها في النهاية إلى مساحات من التفكير عقيمة لن تكون عواقبها سليمة مطلقاً. لاحظ مثلاً في قوم نوح عليه السلام، وكيف أن العقلية العنيدة العقيمة والمستهترة في الوقت نفسه، يمكن أن تؤذي صاحبها دون أن يدرك ذلك. إذ بعد أن طالت مدة دعوته لهم إلى دين الحق، واجهوه عليه السلام، واعتبروا أن دعوته تلك ما هي إلا نوع من الجدال الذي طال عن اللازم. وإن كان صادقاً فعلاً في دعوته، وأنه مرسل من عند الله، فليسأل الله أن يأتيهم بالذي كان يخوفهم منه ( فأتنا بما تعـدنا إن كنت من الصادقين ) أي العذاب والنقمة الإلهية كما كنت تزعم !

  لماذا طلبوا العذاب والنقمة؟ لماذا لم تدفعهم عقولهم العنيدة المتكلسة إلى أن يطلبوا من نوح عليه السلام غير العذاب؟ مااذا لو أنهم طلبوا سعة فورية في أرزاقهم، أو أن تتحول بعض الحجارة حولهم إلى ذهب وفضة مثلاً، وغيرها من نعم الله الكثيرة ؟ لاشك أن وصولهم لذلك المستوى من الغباء حتى في الطلبات، إنما نتاج طبيعي لعقلية العناد والتي ما وصلت إلى تلك المستوى عندهم، إلا بسبب فراغ روحي عاشوه وتوارثوه جيلاً بعد جيل، وبما كسبت أيديهم.   

تكرار المشهد في مكة

الأمر أو المشهد نفسه تكرر بعد آلاف من السنين في عهد النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – مع قريش، الذين كانت عقلية العناد عند صناديدهم وكبار الرؤوس فيهم، قد وصلت حداً ربما فاقت عقليات الأقدمين من القرون الأولى، قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم.

  عقلية العناد والاستهزاء بالغير غير المساير لهم، دفعت بقريش إلى تكرار مشهد نوح عليه السلام مع قومه، رغم آلاف السنين بينهم، لكنه مرض العناد، الذي لا ينتهي من الوجود، وليس له تاريخ صلاحية، بل يتجدد ويتمدد مع بقاء الإنسان نفسه.

   سأل أحد كبرائهم ضمن معرض العناد والاستهزاء في الوقت نفسه، النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -  أن يثبت لهم أن ما يقوله حقاً وصدقاً وأنه نبي مرسل من عند الله، بأن يسأل الله نزول العذاب عليهم، في قصة رواها ابن عباس رضي الله عنهما قال :

 لما قص رسول الله – صلى الله عليه وسلم - شأن القرون الماضية ، قال النضربن الحارث:  لو شئت لقلتُ مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين، أي ما سطره الأولون في كتبهم - فقال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه : اتق الله فإن محمداً يقول الحق، قال : فأنا أقول الحق، قال عثمان: فإن محمداً يقول لا إله إلا الله ، قال : وأنا أقول : لا إله إلا الله ، ولكن هذه بنات الله ، يعني الأصنام، ثم قال : اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك فأمطرعلينا حجارة من السماء ) كما أمطرتها على قوم لوط) أو ائتنا بعذاب أليم  أي : ببعض ما عذبت به الأمم !!

   لولا عقلية العناد التي أغلقت كل منافذ التدبر والتفكرعنده، لكان طلب من الله أن يمطر عليهم ذهباً وفضة بدلاً من حجارة، فإنها بكل تأكيد ستفيدهم وتزيدهم غنى. لكن كما أسلفنا، الخواء أو الفراغ الروحي الذي عاشه أولئك القوم ورفضهم الحق، نتج عنه عقلية عنادية لمجرد العناد، بالإضافة إلى ما كان يخالط قلوبهم، حسد من عند أنفسهم.

الإيمان يزيل العناد  

لكن لاحظ معي العكس من ذلك حين يمتلئ القلب إيماناً بالله. تجد صاحبه بعيد كل البعد عن عقلية العناد، بل لن تجد في قاموس حياته مصطلح العناد. خذ مثالاً يعاكس الأمثلة التي أوردناها قبل قليل، قوم نوح ومثلهم قريش. إنهم حواريو أو أصحاب عيسى عليه السلام. أولئك النفر الذين آمنوا بعيسى نبياً ورسولاً من عند الله، من بين آلاف أخرى مؤلفة، كذبوه وعاندوه. الحواريون حين طلبوا دليلاً من عيسى عليه السلام يثبت صدق نبوته، ما سألوا الله أن ينزل عليهم عذاباً أو أياً مما يمكن أن يتأذى الناس منها، بل طلبوا مائدة طعام تنزل من السماء، تطمئن بها قلوبهم ولتكون آية ومعجزة لمن يأتي بعدهم.

   هل لاحظت الفرق وما يفعل الإيمان بالقلوب والعقول؟ القلب حين يفرغ أو لا يجد الإيمان سبيلاً إليه، تجده يقسو، والعقل بالضرورة، يتبلد ويتجه ليعاند ويكابر. والنتيجة النهائية غير سارة لصاحبهما دون أدنى ريب. فيما العكس يكون. حين لا تجد زاوية من زوايا القلب إلا والإيمان يكسوها، ليصل التأثير بالضرورة للعقل، الذي هو بالضرورة أيضاً، يبدع ويفتح لصاحبه آفاقاً رحبة من التفكير فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا قبل الآخرة.

   على صعيد العلاقات البشرية العادية، فإن العنيد عند خبراء النفس الإنسانية، هو ذاك الذي لا يرى غيره ولا يسمع إلا صوته، ولا يعتقد أن هناك من يفكر سواه، أو هكذا هو غالباً. ولو أوقعتك الأقدار أن تتعامل مع عنيد في موقف حياتي ما، فأنت ها هنا ودن أدنى شك، ستكون في مواجهة صعبة تتطلب منك سعة صدر ومرونة بالغة في الأخذ والعطاء، مع تفهّم عميق لما يمكن أن يصدر عنه من أفعال وأقوال. وما لم تكن تملك تلك المهارات والصفات قبيل المواجهة - إن صح وجاز لنا التعبير- فلا شك أنك ستدخل ما يشبه معركة طحن وكسر للعظام. إما أن يكسرك أو تكسره، أو هكذا هي الأجواء غالباً عند العنيد. ولا أعتقد أنك من تلك النوعية، بل أرجو ألا تكون أبداً، وإنما من أولئك المترفعين عن تلك النوعيات من البشر، فذلك هو الأحوط والأسلم، سلمك الله ورعاك.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

❤️